إن الشباب العربي اليوم يقفز قفزات كبرى بفضل وعي عصري متجدد يخلق لذاته مطالباته الخاصة في التغيير ليعيد ترتيب البيت العربي من جديد، وبسرعة تتوازى مع سرعة العصر نفسه
المراقبون للأحداث العامة، والتي تدور في الساحة العربية، يلحظون أنها كانت مفاجئة، وكان حجم التغيير والمطالبات بالحقوق التي تصدى لها الشباب في الساحات العربية مربكاً. لم يكن متوقعاً أن ينهض الشباب العربي ويقوم بثوراته ومطالباته بالتغيير. حجم الغضب أكبر مما كان متوقعاً وسرعة الأحداث مربكة جداً، وقطع الدومينو تتوالى في السقوط سريعاً، ورقعة الشطرنج اختلطت أحجارها بشكل سريع وتمردت على لاعبيها، والنص العربي يكتب نفسه من غير كاتب، وبطل الرواية يرفض أن يتحكم فيه كاتب الرواية. هذه الحالات المجازية هي حالة الشباب العربي وكأنهم المارد الذي خرج من قمقمه لتغيير وجه الحياة اليومية.
ما يحصل الآن ليس ما حصل في الأمس، إنما هو وعي شبابي عام. الشباب الذين صحوا على وجود أنظمة عربية باقية منذ أمد طويل، ولم تحرك ساكناً في تصحيح الأوضاع. على الأقل على المستوى المعيشي. كانت معدلات التزايد السكاني من فئة الشباب في تصاعد، وكانت معدلات التنمية في انخفاض متزايد، أما في الدول التي تحظى بتنمية جيدة، فإنها لم تكن عادلة في التوزيع كالحالة التونسية مثلاً.. تنمية أسطورية المعدلات لكن لا يوجد لها على أرض الواقع المعيشي أي مظهر. يعتبرها المفكر عزمي بشارة (نمواً وليست تنمية) باعتبار أن ما حصل هو تزايد في المعدلات الاقتصادية دون أن تكون هناك إصلاحات معيشية لرجل الشارع، بل هناك تضخم في الاقتصاديات جَرّت إلى تضخم معيشي أضرّ بالمواطن العربي في بعض البلدان، وهذا ليس وضعاً تنموياً بل هو نمو ربما يذهب لصالح فئات قليلة دون رجل الشارع أو المواطن.
صاحَبَ كل ذلك وعي شبابي على مستوى العالم العربي، حتى أصبحت المطامح واحدة.. نسب المتعلمين في ازدياد، والوعي الشبابي ليس هو وعي الكهول حتى على المستوى الأسري البسيط، والتسارع الزمني يجعل الشباب هم أصحاب المرحلة. كانت الحياة سابقاً ـ حتى مع تطورها ـ تسير بشكل تدريجي ومعروف. الآن لم يعد هذا الشيء متداركا.. الحياة اليوم مختلفة عن عشر سنوات فقط. حياة كاملة تتغير، فما بالك بتغير ثلاثين سنة هو عمر الشباب الحالي الذي يطالب بالتغييرات. هناك تغير حياتي بشكل يومي والذهنية ليست هي الذهنية اليوم. اليوم يحتاج لذهنية أكثر حيوية سواء على المستوى الإداري، أو على المستوى المعيشي البسيط. هنا كان لا بد من وجود وعي شبابي يجتاح هذه المتغيرات ويتوازى في السرعة معها ليطالب بالتغييرات. هذا الوعي لدى الشباب كان وعياً عاماً، ومعدل المعرفة كبير جداً لا تهمه صيحات الوعي الكلاسيكي التعليمي بقدر ما هو الوعي الحديث حتى بحاجات التعليم، والشباب العربي وعيهم وعي حديث يحتاج تغييرا في كل الخطط التنموية والخطط التربوية فلم يعد يرضيهم تعليم كلاسيكي لا علاقة له أبدا بالحضارة المعاصرة، أو حتى بمنتجات التقنية أو سوق العمل. معدل الوعي لدى الشباب العربي عال جداً.. طبعاً لا أعني فيه الوعي الفكري المعمق بقدر ما هو وعي على مستوى التغيُّر المعاصر، وعلى مستوى الحاجات الحياتية، والتطلعات المستقبلية بغض النظر عن المفاهيم الكبرى التي تتوالد على المستوى الفكري الجذري؛ إنما المسألة عائدة إلى أن هذه الحضارة الإنسانية خلقت نوعاً من الوعي العام لدى الأجيال الجديدة بمدى استيعابهم للمتغيرات الحياتية. هذا الوعي لدى الشباب كاف على المستوى العملي لكنه ليس كافياً على المستوى الفكري، لكن الزمن كفيل بتجديد الروح الفكرية لتجدد العصر ذاته. وعي الشباب هو وعي بالعصر نفسه بغض النظر عن أبعاد هذا العصر كونه عصر الآخر وليس عصر الذات العربية، والذي كان مشكلة النهضويين العرب سابقاً. هنا حضارة إنسانية قائمة خلقت أوضاعا معيشية متفوقة لدى الآخر، وكان لا بد أن تعاش بعيداً عن الجدل العقيم حول كونها ناتجة عن الذات أو ناتجة عن الآخر. لم يعد شباب الفضائيات ولا الفيسبوك ولا التويتر ولا غيرهم تعنيهم كثيراً من أين جاءت هذه الحضارة وهذه التقنية. هنا حضارة وهذه حياة، وكان لا بد من توازي الاثنين معاً، أي أن نعيش حياتنا متوازية مع متطلبات الحضارة المعاصرة.
هذا الوعي أيضا جعل التغيير ليس مرتبطاً بشعارات قديمة وبائدة مازال يجترها المحنطون فكرياً من أصحاب التيارات القديمة سواء كانت يسارية أو يمينية، وإنما هو وعي يتجاوز تلك المراحل التي لم تصنع غير الخيبات لأصحابها ولشعوبها، ولذلك جاءت الروح الشبابية لتعتبر أن كل ذلك هو من قبيل التاريخ الذي لم يعد صالحاً للعمل اليوم. الشعارات الرنانة لم تعد تجدي، والتيارات العربية المتطاحنة لم تعد تهم شباب اليوم، وعلى هذا الأساس جاءت المطالبات لتركن لما هو مشترك حياتي وإنساني بعيداً عن التحزبات الأيديولوجية، وبعيداً عن بؤر الصراع القديم بين تلك التيارات أو المذهبيات.
كما أن الوعي التقنوي ـ إذا جاز لنا صك مصطلح جديد ـ أعطى بعداً تواصلياً مشتركاً بين الفئات الفكرية والعمرية بين الشباب، فأصبحوا أكثر وعياً بالمنجز التقني مما يمكن لنا أن نتصور أن تخلق التقنية وعيا لم يكن سابقاً، وخصوصاً على مستوى التواصل الإنساني والفكري إذ لم تعد الحدود الفكرية ولا الدينية ولا الاجتماعية ولا النفسية ولا حتى الجغرافية يمكن أن تقف أمام هذا الكم الهائل من التواصل البشري بين أقطاب العالم، وواضح أن الشباب هم الأكثر سيطرة ووعياً بهذا المنجز بحيث سرعان ما تحول هذا التواصل وارتدام الهُوّات بين الجسور البشرية إلى مطالبات في التغيير توازي الثورة الاتصالية والثورة الفكرية التي صنعتها التقنية من غير أن يشعر أحد.
إن الشباب العربي اليوم يقفز قفزات كبرى بفضل وعي عصري متجدد يخلق لذاته مطالباته الخاصة في التغيير ليعيد ترتيب البيت العربي من جديد، وبسرعة تتوازى مع سرعة العصر نفسه، لذلك كانت مفاجئة جداً على المراقب النهضوي الكلاسيكي الذي مازال يفكر في ذهنية ثورات الخمسينات والستينات والسبعينات التي لم يعد لها نصيب من التغيير. إننا أمام طوفان شبابي كبير يحتاج منا كعرب إلى إعادة الرؤى في كل قضايانا الفكرية والتنموية والحياتية لاستيعاب التغيير الذي يطالب به هؤلاء الشباب.