أذكر من والدتي جيدا قولها فيما يشبه الدعاء: الله لا يسلط عبدا على عبد.

أذكر من والدتي جيدا قولها فيما يشبه الدعاء: الله لا يسلط عبدا على عبد. بمعنى ألا يجعل مصير مخلوق بيد آخر. ولكن القرآن يقول ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا. ورحمة ربك خير مما يجمعون، ونحن كائنات بشرية اجتماعية لا يمكن أن نصبح بشرا ننطق ونتعلم ونبني عائلات بدون حوض المجتمع، فلا مهرب من العيش في مجتمع، كما يقول ابن خلدون على أساس الضرورة وليس الترف. ويضرب المثل في هذا تحصيل رغيف الخبز أنه يحتاج إلى عشرات الصناعات التي بدورها مرتبطة بعشرات أخريات وهكذا في دورة طويلة في تعميق معنى ضرورة المجتمع لعيش الفرد وترقيه، ولكن وفي هذا الحوض بالذات تبدأ التراجيديا الفعلية كما يروي (تزفيتيان تودوروف) في كتابه (اكتشاف أميركا) مذبحة مروعة حدثت في (كاناو) في كوبا عندما بدأ الإسبان في اجتياح أميركا.
تبدأ الحادثة بظرف عرضي أثناء تناول طعام الإفطار في مجرى جاف لأحد الأنهار عندما يلفت نظرهم الأحجار الصوانية المكتظة ما ألهمهم فكرة شحذ سيوفهم.
وعند اقترابهم من إحدى القرى الهندية راودتهم فكرة إبليسية، فلماذا لا يتحققون من حدة سيوفهم إن كانت قاطعة بالدرجة الملائمة!
وفجأة يستل إسباني السيف وسرعان ما يحذو المئة الآخرون حذوه ويشرعون في تمزيق أحشاء أهل القرية الذين كانوا يتأملونهم بوداعة وسلام. وفي دقائق معدودة لا يبقى على قيد الحياة أحد.
ولدى دخول الإسبان بيتاً كبيراً مجاوراًً هرب إليه من تبقى من الأحياء شرعوا بقتل جميع من كان هناك ضربا باليمين، حتى سال الدم في كل مكان، كما لو أنه قد جرى ذبح قطيع من الأبقار.
ومن بعض اللقطات من هذا الفيلم الإسباني الذي يستوحي زخمه من مصارعة الثيران أنه:(عندما نزل الشاب الهندي لمحه جندي إسباني فاستل سيفاً قصيراً ووجهه إليه كما لو كان يريد الاستمتاع بضربة في خصره تعري أحشاءه. ويحمل الهندي المسكين أحشاءه في يده ويهرب من البيت راكضاً ويقابل القس الذي يحدثه فوراً عن أمور الإيمان ( بأية لغة؟) بقدر ما كانت تسمح بذلك الحالة المؤلمة جاعلاً إياه يفهم أنه إذا كان يريد أن يُعمَّد فسوف يذهب إلى السماء ليحيا مع الرب. والحال أن المسكين يجيب وهو يبكي ويتأوه من الألم كما لو كان يهلك في اللهب بأنه يريد ذلك، عندئذ عمده القس ثم سقط الهندي ميتاً على الأرض).
هذه القصة هي لون آخر من السادية التي ينخرط فيها بعض الناس تحت عوامل سيكولوجية شتى، ليس أقلها الشعور أن (الآخر) لا يساوي شيئاً أكثر من تجربة تافهة، في ظل بعد عن العيون، واختفاء عنصر المساءلة والردع، وزهو القوة بامتلاك السلاح.
ومنذ الستينات يتناقش علماء النفس عن هذا اللون من الانحراف وكيف يحصل. وما هي العناصر التي تتفاعل لتوليده. لقد ذهل العالم (النفسي الاجتماعي) الأميركي (فيليب زيمباردو) من تحول الناس العاديين في ألمانيا النازية إلى قتلة ساديين وعندما كانوا يسألون كيف فعلتم ما فعلتم؟ كان جوابهم بكل بساطة: هكذا كانت الأوامر ولم يكن علينا سوى تنفيذها.
هل القسوة والسادية سببها (خلل جيني) أم خليطة كيمياوية من (تفاعل التربية والوسط الاجتماعي)؟ لماذا تحدث كل هذه الوحشية في السجون والحروب الأهلية؟
لماذا ينزل جندي إلى قبو لجأت إليه خمسون امرأة يحتمين من حرب أهلية دائرة فيحصدهن بالرشاش إلا واحدة حمتها والدتها بجسدها فخبأتها تحتها فبقيت يومين تسبح في الدم ورائحة الجثث لتبقى الشاهدة الوحيدة تروي قصة الإنسان الوحش؟
يقول (ميشيل فوكو) عن (تاريخ الجنون) إن استئصال الرحم عند المرأة مازال في اللغة الطبية يعني حتى اليوم (إزالة حالة الهستريا)(Hysterectomy). لقد استأصلهن الجندي الهمام بضربة واحدة ما لها من فواق.
تحت تأثير أمثال هذه الصدمات التاريخية لم ير الكاتب البلغاري أستاذ السوربون (تودوروف) لرد الاعتبار والتكفير عن الذنوب التي اقترفت مع فتح أميركا أفضل من إهداء كتابه (مسألة الآخر) إلى المرأة الهندية؛ فخلال الحرب أسر القائد (آلونسو لوبيث دي آبيلا) هندية حسناء كانت قد وعدت زوجها بأنها لن تكون لأحد سواه. مظاهر الإدمان على القوة في العالم كثيرة وليس مثلها خمرة تدير الرأس وتفسد السلوك حتى يحق عليهم قول ربي: يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون.