إذا حسن ضمير الإنسان حسن أداؤه وسلوكه الإنساني، وهذا دلالة واضحة على حسن تربيته ومعتقده ومنهله الثقافي بشكل عام. فانتماء الإنسان للإنسانية بشكل عام هو قمة تشكل ضميره الإنساني ودلالة على إنسانيته ورقيه الإنساني

عندما نسمع عن مجازر، يذهب ضحيتها عشرات أو مئات البشر منا على يد غيرنا، سواء في فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو غيرها، ينطلق منا أول ما ينطلق صرخة احتجاج مدوية تتساءل بغضب أين الضمير الإنساني؟! أو أين الضمير العالمي؟! وهذا من حقنا وتساؤل مشروع لنا. ولكن عندما ترتكب مجازر بحق العشرات أو المئات أو حتى الآلاف منا في العراق أو في الجزائر أو في السودان أو في اليمن أو في الصومال أو غيرها، والتي قد تتراكم أعداد الضحايا فيها للملايين مع مر السنين، بيد زعيم وسفاح منا أو بيد عصابة متعطشة لسفك الدماء والولوغ فيها، ونسمع دوي نداءات احتجاج من خارج حدودنا المقدسة تسأل: أين الضمير الإنساني؟! أين الضمير العربي؟!، نصم أذاننا ونقول ما هذا التدخل المشبوه والسافر في مسائلنا الداخلية؟ مع كون هذه الاحتجاجات تنطلق لنا ومن أجلنا؛ معتبرة ما يسقط منا من ضحايا، ليست مجرد أرقام نوردها في أخبارنا، ولكنها ضحايا تسقط من الإنسانية، يحاسبنا عليها الضمير الإنساني.
إذاً ما هي حقيقة الضمير الإنساني الذي دوماً نطالب به غيرنا للاحتكام إليه؟ ودوماً نتضجر منه ونتهرب من الاحتكام إليه؟ فهل الضمير الإنساني يأتي على حسب التفصيل والطلب؟ كما فهمناه أم أردناه، أم تمنيناه، أم هو محايد لا يفترض منه بأن يأتي على حسب مقاييس أو مواصفات أحد مهما علا أو تدنى شأن هذا الأحد؟ أم هو محايد يأتي كما هو، وينطبق على كل أحد كما هو بلا استثناء؟ وهل الضمير الذي نطالب به غيرنا، يختلف عن ماهية ذاك الضمير الذي يطالبنا به غيرنا؟ فنصفق للأول ونبصق على الثاني! وهل من مصلحتنا بأن نراوغ في استخدامه، كمعناه المراوغ في لغتنا، كما نريده أو كما أردناه، أو كما أردنا فهمه، أو كما استوعبناه، حسب فهمنا المراوغ في فهم طبيعة الأشياء؟
يأتي معنى ضمير في لغتنا العربية، المتكلسة من تكلس حراكنا الثقافي وانقطاع عطائنا الحضاري عادة كمختف، كما صاغه نحونا العربي؟ حيث نردد دائماً الضمير المستتر. ومعنى الضمير من الضمور، وهو عكس معنى مصطلح الضمير الإنساني وهو الاتساع والشمول، فهل الضمير يضمر ويختفي ويظهر ويتضخم، كما نريد منه. أم أنها تعكس أزمتنا الثقافية مع الضمير والضمائر بكل أنواعها ودواعيها؟
في تاريخ التراث الفكري العربي، لا يرد مصطلح أو معنى ضمير، كما هو مستخدم في العرف الإنساني اليوم. أي هو مصطلح جديد وطارئ على لغتنا المعبرة عن ثقافتنا، المحددة لنبض وجداننا. لقد استخدمنا واستعملنا مصطلحات ومعاني، مرادفة ولو لم تكن متطابقة مع مصطلح الضمير الإنساني؛ مثل الدين والأخلاق. فهل الدين والأخلاق يؤديان نفس المعنى المقصود بالضمير المقصود اليوم؟ لا أعتقد، فباسم الأديان تشن الحروب وترتكب المجازر والتصفيات؛ وهذا عكس ما يطالب به الضمير الإنساني. والأخلاق منظومة تصرفات فضفاضة متغيرة ونسبية الزمان والمكان والإنسان، أما الضمير الإنساني فهو مصطلح محدد، لا يتجاوز معناه، أو ما وضع للدلالة عليه. فالضمير الإنساني كما هو متداول اليوم، هو تعبير عن روح، تقدس حياة البشر وكراماتهم وحرياتهم وحقوقهم المشروعة كجنس بشري، بلا استثناء لجنس بشري دون آخر، وتحافظ عليها وترعاها، وتطالب بها، وتشجب ما عداها وتمقته وأكثر، ولا تسمع لمبررات الاعتداء عليها، وكل ذلك يتم دون البحث عن أجر أو شكور.
ولا يمكن أن يكون مصطلح الضمير الإنساني، مصطلحا عربيا أو إسلاميا، وذلك لكون ما ذكرته أعلاه، من معان للضمير الإنساني والمتمحورة حول الإنسان وضرورياته اللابهيمية، لا تعني العربي والمسلم، بأكثر من ترديدها من غير قناعة أو إيمان بها، هذا في حال فهمها من يرفع صوته في ترديدها، إلا القلة ممن رحم ربي وناله قبس من روحه الزكية التي نفخها في مخلوقه الإنساني الأول آدم.
إذاً، فمصطلح الضمير الإنساني هو مصطلح دخيل علينا، لا يعبر عن ثقافتنا ولا ترحب به أهواؤنا، مع كوننا نستخدمه أثناء صراخنا وزعيقنا ونذم لفقدانه غيرنا أكثر من غيرنا. وللأمانة فهو مصطلح حديث حتى على بني الإنسانية جمعاء، فهو معبر عن روح وتقدم ورقي الإنسان. حيث تم تداوله لأول مرة، وعلى مستوى جمعي، في عقود النهضة الإنسانية الأوروبية الحديثة، كمظهر من مظاهر الروح العامة لها، التي اتجهت بفكرها وسلوكها بعيدا عن التراثيات المقدسة واللامقدسة، وصاغتها كإحساس داخلي، يتولى التمييز والفرز بين الخير والشر، ويدعو إلى الأول وينهى عن الثاني. وهكذا شاعت ليخطها الإنسان الأوروبي بماء الذهب الإنساني في دساتير دوله وأنظمته وقوانينه. للتحول إلى ثقافة تحرك سلوكيات الصادقين منهم، وهم الأغلبية. والتي منحتهم القدرة على التمييز بين ما هو حق وما هو باطل، وهو الذي يؤدي بالتالي إلى الإحساس بالشعور بالندم إذا تعارضت الأشياء التي يفعلها مع الإحساس بالرضا والنزاهة، عندما تتفق الأفعال مع نوازع الضمير الإنساني والشعور بالاستقامة والنزاهة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية.
ولقد شرح علماء العصر الحديث في مجال العلوم الإنسانية وعلم النفس والأعصاب كينونة الضمير، بأنها وظيفة من وظائف الدماغ التي تطورت لدى الإنسان المتطور لتسهيل الإيثار المتبادل أو السلوك الموجه بين الفرد ومجتمعه، في مساعدة الآخرين على أداء وظائفهم أو احتياجاتهم دون توقع أي مكافأة. إذاً فكلمة ضمير هي المعنى المتداول للنفس، وعليه فالضمير، هو ما يعبر عن معتقد الإنسان النفسي والتربوي والعقائدي والديني، فكل هذه الأشياء تشكل ضمير الإنسان، الذي سيتصرف دائماً حسب ما يمليه عليه ضميره أو معتقده. ومن هنا نصل إلى أن الضمير هو مكنون الشخص، أي ما يعبر عما هو بداخله، ولا يطلع عليه أحد، ولكنه يظهر من خلال تصرفات هذا الشخص في أدائه الحياتي اليومي من خلال علاقته المتبادلة مع الآخرين.
إذاً إذا حسن ضمير الإنسان حسن أداؤه وسلوكه الإنساني, وهذا دلالة واضحة على حسن تربيته ومعتقده ومنهله الثقافي بشكل عام. فانتماء الإنسان للإنسانية بشكل عام هو قمة تشكل ضميره الإنساني ودلالة على إنسانيته ورقيه الإنساني. إن الانتماءات الضيقة القديمة التي تكبل الإنسان داخل دوائرها الخانقة مثل القبيلة والجغرافيا والتاريخ والدين واللون والعرق, وتملي عليه مبادئها التراثية الغابرة تحرمه من نعمة تشكل الضمير الإنساني داخله; وعليه تغيب عن سلوكه وممارساته كل ميزات الإنسان العصري الحديث المتصالح مع محيطه والمتوائم مع عصره والمتفاعل مع معطيات حضارته الإنسانية الحديثة. ولكي ينعم الإنسان العربي والمسلم بمنجزات الحضارة الإنسانية الحديثة والتي قد تهبه حق الحفاظ على حياته وممتلكاته وحرياته وحقوقه بشكل عام فعليه أن يتخلى أو يحدث قطيعة عن دوائره التراثية الغابرة وينتمي بكل حب ووفاء لدائرته الإنسانية الأوسع والأرحب التي وهبه الله للإنسان العصري الحديث كجزء من حكمته في خلق خلقه وهي تكريم الإنسان وإعمار الأرض بما رحبت.