إن الشك في كثير من الحالات كان هو الصورة الثانية لليقين وإن الكثير من الذين قدموا دفعات يقينية في تاريخ البشرية كانوا من الجهة الأخرى شكاكين كبارا أيضا
هل للشك تاريخ؟ أم إنه مجرد ردة فعل واعتراض على الوثوقية والتسليم؟ هذا هو السؤال المحرك لهذا الكتاب. هل الشك موقف أساسي أم إنه مجرد خروج عن الطريق الأساسي؟ هل هناك ما يمكن تتبعه بوصفه تاريخا للشك ممتدا وطويلا ويعبّر عن أن التشكك كان ولا يزال مبدءا للفكر وليس هامشا له؟ تطرح جينفر هتش (1965-)مؤرخة الأفكار الأميركية هذه الأسئلة في كتابها DOUBT...HISTORY ( الشك.. تاريخ). تعتبر هتش أحد الأصوات المهمة التي تطرح تشككاتها بصوت عال في الساحة الثقافية والإعلامية الأميركية، فهي باستمرار تقدم مساءلات للمفاهيم الدينية أو الإيديولوجية السائدة وتعمل على تقديم صورة مختلفة للشك. فالشك، بحسب هيتش، ليس حالة من التردد وفقدان المسار بل هو موقف بحد ذاته، موقف لديه القدرة على تقديم الطمأنينة والاستقرار بل والسعادة لأصحابه. تواجه هتش، والحديث هنا في السياق الأميركي، مواقف دينية تنظر للشك على أنه حالة من التوهان، أو أنه نزغات شيطانية يمر بها الإنسان، بل إنها تواجه رفضا من رجال الدين للاعتراف بحقيقة الشك، فهم لا يعتبرونه موقفا حقيقيا بقدر ما هو عملية عناد أو حبّ للظهور. هنا محاولة لإبعاد الشك عن كونه موقفا حقيقيا يستحق التفكير والنقاش والنقد، فرجال الدين المحافظون لا يزالون يتعاملون مع الشك على أنه مرض أو حالة من المراهقة. في هذا الكتاب وعلى مدار خمسمئة صفحة تقدم هتش أطروحة أساسية تقول إن للشك تاريخا وإن التاريخ البشري احتضن على طول امتداده فكرا شكيا أساسيا في حركة الفكر، بل إن الشك في كثير من الحالات كان هو الصورة الثانية لليقين وإن الكثير من الذين قدموا دفعات يقينية في تاريخ البشرية كانوا من الجهة الأخرى شكاكين كبارا أيضا. ولذا نجد في بطن الكتاب وضمن تاريخ الشك، بوذا والمسيح.
ليس من المستغرب إذن أن نعثر على الغلاف الخارجي للكتاب على مقولة ثناء من المؤرخ اليساري الأميركي الكبير هوارد زن فهو علامة من علامات الشك في التاريخ الأميركي ففي كتابه الأشهر تاريخ الناس في الولايات المتحدة يقدم صورة مختلفة عن التاريخ الأميركي حيث يشكك في الروايات الكبرى ويقدم قراءات نقدية مهمة عليها. ففي تاريخ زن لا نعثر على تاريخ الطبقات المسيطرة ولا على تاريخ الدولة الرسمي. بدلا من ذلك نعثر على تاريخ الناس.. تاريخ الهنود الحمر والسود والعمال والنساء، تاريخ الطبقات المسحوقة التي غالبا ما تختفي من الصورة. يقول زن عن هذا الكتاب جنيفر هتش قدمت في هذا الكتاب، بطريقة ممتعة ولكنها جدية، نظاما رائعا من الفلسفة والعلم والأدب بطريقة رائعة ومترابطة. هذا النظام الذي أشار له زن هو هدف هتش المعلن على الأقل. الشك باعتباره نظاما مترابطا يتمثل في مختلف صور التفكير الإنساني وليس فقط في الفلسفة. تعلم هتش أيضا، ربما أكثر من غيرها، تاريخ الشكاك مع الأنظمة اليقينية والوثوقية، فعلى طول هذا التاريخ تعرض المتشككون للنبذ والأذى ومحاولة الطمس، الوضع أيضا لم يتغير كثيرا في بقاع كثيرة من الأرض فلا يزال الشك خطرا وعدوا تجب محاربته باستمرار، هتش بهذا الكتاب تقدم دعما لشكاك اليوم، دعما معرفيا ومعنويا حتى. وفي المقابل فإن الإيمان ليس سيئا بل قد يكون رائعا ولكنه ليس وحده الرائع هناك أشياء أخرى رائعة ومنها الشك. تسعى هتش للوصول إلى هذه المعادلة اليوم في أميركا وفي العالم، فالمواقف الحادة بين الطرفين ليس لها مبرر اليوم في فضاء يكفل حرية الاعتقاد والتعبير للجميع.
استعرضت هتش تاريخ الشك على طوال التجربة الإنسانية المعلومة. انطلاقا من الثقافات الهندية القديمة مرورا باليونان ووصولا للعالم اليوم. من الفصول المهمة الفصل المخصص عن الشك في التاريخ الإسلامي. تختار المؤلفة نموذجين للشكاك المسلمين الأول ابن الراوندي والثاني أبو بكر الرازي. تبدأ المؤلفة بابن الراوندي لتقول إنه لا يمكن فهمه في السياق الفلسفي العربي فهو ليس فيلسوفا بالمعنى المتعارف عليه، بدلا عن ذلك يمكن فهمه في سياق الجدل الكلامي العربي. لكن ابن الراوندي كان أرسطيا وقدم رؤى كثيرة تتعارض مع الرؤى السائدة عن الكون والحياة في وقته. تعرضت المؤلفة أيضا لعلاقة ابن الرواندي مع أبي عيسى الوراق وكيف ساعده في فتح الكثير من الأسئلة التي نادرا ما فتحت على طول التاريخ الإسلامي. النموذج الثاني للشكاك في التاريخ الإسلامي القديم هو الطبيب والفيلسوف أبو بكر الرازي. الرازي كان طبيبا قريبا من الناس ويحظى باحترامهم هذا حسب المؤلفة هو الفرق بين النظرة له والنظرة لابن الراوندي في التراث الإسلامي. إضافة إلى هذا فقد كان الرازي فيلسوفا حرا وشكاكا كبيرا كان يقرّ بوجود خالق ولكنه كان ينظّر لأحقية وقدرة الإنسان على التفكير المستقل وطرح الأسئلة الصريحة على المعرفة المحيطة به. في الريّ، في بغداد عاش الرازي في إحدى أهم فترات الفكر الإسلامي. القرن الثالث والقرن الرابع كانا مرتعين للفكر والثقافة والعقول من كافة أرجاء العالم القديم. كانت بغداد ملتقى للكثير من السياقات والمذاهب والديانات والفلسفات، وفيها تم التقاء كل هؤلاء وولادة منعطفات كثيرة في تاريخ الفكر الإنساني. الرازي كان نقطة التقاء للإسلام بالفكر الفارسي بالفلسفة اليونانية من خلال عدة لغات. هنا يكمن ثراء الرازي وحقبة الأنسنة في تاريخ الفكر الإسلامي. بعد هذين النوذجين تمرّ المؤلفة، بسرعة، على كل من ابن سينا والغزالي وابن رشد الأكثر شهرة ومعرفة في الغرب كما في الشرق. مرّ الشك بالمسلمين، ازدهر عندهم ولكنه أيضا يكاد يموت تحت وطأة الوثوقية والدوغمائية وتحريم التفكير ولكن... للتاريخ بقية.