الماء الزلال أمام أعين العطاشى لكنهم لا يستطيعون الوصول إليه، يتفرجون عليه، ومرارة وجفاف العطش يفتك بهم، فما الذي يحول بينهم وبين إكسير الحياة؟ هل هو مرض معقد مقعد، أم قوة قاهرة، أم عمى بصيرة وقلة حيلة! لا أدري، لكن الواضح أن هناك خللا وظيفيا واضحا داخل الأجهزة الرسمية يحول بين عطاشى الوظيفة وبين ماء التوظيف الرسمي.
الحديث هنا لا يتعلق بالعاطلين من الجامعيين والجامعيات وغيرهم ممن لم يشموا رائحة الوظيفة حتى الآن، الحديث عن أولئك الذين لم يبقوا على الرصيف ولم يلجوا عالم الموظفين المطمئنين على حاضرهم ومستقبلهم، إنهم (البنديون الذين كتبت عنهم يوم الاثنين الماضي)، لقد كتب عدد منهم رسائل تقطر ألما ليس على إثر نشر مقالي فقط وإنما على إثر ما صرحت به وزارة الخدمة المدنية أمام لجنة الموارد البشرية بمجلس الشورى، عن وجود 185 ألف وظيفة في الأجهزة الحكومية تنتظر السعوديين من الجنسين ـ وفق ما نشرت صحيفة الحياة منذ عشرة أيام ويوم أمس أيضا ـ والسؤال الطبيعي والمنطقي الذي يطرحه هؤلاء (البنديون) الذين يصل عددهم نحو 160 ألفا، هو كيف يبقون على مكافآت لا تسمن ولا تغني من جوع ولا خوف، بينما داخل الأجهزة التي وظفتهم على البند وظائف شاغرة أو يشغلها متعاقدون هم أولى بها منهم، وعدد هذه الوظائف الشاغرة وما في حكمها أكثر من عددهم بنحو خمسة وعشرين ألف وظيفة، فضلا عن أن تصحيح وضعهم وتثبيتهم صدر به أمر سام منذ خمس سنوات تقريبا وشكلت له لجنة لتنفيذ الأمر، أليس في هذا الواقع ما يثير حيرة هؤلاء وغبنهم ويضاعف وقع المشكلة على نفوسهم، سيما وهم يشعرون بل وواثقون أن الجهات التي شغّلتهم على هذه البنود في حاجة ماسة إلى جهودهم، والدليل أنهم يداومون كما يداوم زملاؤهم وزميلاتهم الرسميون، ويؤدون أعمالا لا تقل عما يقوم به أولئك الرسميون المطمئنون، بل إن كثيرا منهم يتحمل أعباء إضافية في سبيل تحقيق أمل التثبيت من جهة، وخوفا من التمحك الذي قد يفضي إلى الطرد السهل من جهة أخرى، وكل هذا في سبيل مبلغ لا يتجاوز ألفي ريال للغالبية العظمى منهم ومنهن، مع ما يكتنفه من مخاوف الانقطاع أو التوقف بين لحظة وأخرى.
لقد ناقش عدد من الزملاء الكتاب والكاتبات وضع هذه الوظائف الشاغرة وما في حكمها وتساءلوا كيف يكون لدينا عاطلون جامعيون وجامعيات وحملة دبلوم بلغ مجموع ما تخرج منهم في العام الماضي فقط أكثر من 123 ألف خريج، ثم ما هي هذه الوظائف التي لا يستطيع القيام بها هؤلاء، وهذه أسئلة مشروعة ومنطقية، لكنني بعد أن قرأت وتأملت تذكرت (البنديون) الذين كتبت عنهم والذين أمضى بعضهم أكثر من عشر سنوات على بنود لا تحصى مثل (المؤقت، صندوق الطالبات، الأجور، رفع الكفاءة، الراتب المقطوع، 105، الأجر اليومي، محو الأمية، بند 70) وأسماء أخرى لا تحضرني، فكل جهة حكومية ابتكرت مسمى احتالت به لسد العجز الوظيفي عندها، وأخيرا يتم الكشف عن هذا الكم الضخم من الوظائف التي تكفي هؤلاء (البنديون) وتفيض، فهل هذا معقول أو مقبول؟ من يفتح قنوات هذه الوظائف ليصب ماءها في حلوق عطاشى التوظيف؟ الخدمة المدنية والشورى لا صلاحية لهم سوى الكلام، فمن يفتح دمل اللا معقول هذا؟