ننفق أكبر المبالغ المالية، حتى إن وسائل الإعلام لم تعد تكترث بتغطية خبر أي مشروع لا يحمل البليون ريال كحد أدنى. لكن ومع كل هذا لم يحدث أي تطور لافت في مداخيل الأفراد
يقول عالم الأحياء الشهير تشالرز داروين: ليس الأقوى بين الكائنات ولا الأشد ذكاء هو الذي ينجو ويستمر لكنه الأسرع والأكثر تصميماً وقدرة على التعايش مع التغيير. هذا العالم أتى بهذه النتيجة بعد أن أفنى حياته في متابعة الحياة والكائنات وأسباب بقاء بعضها واندثار الأخرى. داروين وجد أن بعض الكائنات التي تكاثرت في الغابة استطاعت حتى بعد جفاف الغابة أن تتكيف مع الصحراء. بينما وجد أن هناك كائنات فشلت في قبولها لحياة التصحر فاندثرت. ومن هنا وحسب مقولته الناتجة من أبحاثه فإنه لم تكن للقوة ولا للبنية الجسدية ولا للشراسة والضخامة ولا حتى للذكاء الذي يتمتع به الحيوان أية علاقة بالبقاء. سر البقاء الوحيد كان سرعة تقبل هذا الكائن للتغيير والتكيف مع متطلبات الحياة الجديدة التي وجد نفسه بها. يجوز لنا القول إن العناد والتشبث بالحياة السابقة بنفس ظروفها كان سبباً في فناء بعض الحيوانات.
هل يمكننا أن نطبق هذه النظرية على المجتمعات لمعرفة سر بقاء بعض الأمم واندثار بعضها، لا بسبب الظروف الطبيعية كما جاء في خلاصة داروين بل بسبب ظروف اجتماعية وأنماط سلوكية؟ كانت أوروبا المظلمة تسير بسرعة إلى الاندثار لولا تصميمها على قبول التغيير ونفض غبار الجهل والاستبداد ولو أنه أتى متأخراً قليلاً. هناك كيانات وأنظمة سادت ثم بادت بسبب إصرارها على نمط معين ووحيد للحياة لم يقبل التكيف مع التغيير. الاتحاد السوفيتي مثالاً صارخاً.
التاريخ مليء بمثل هذه القصص منذ هبوط آدم وحواء على الأرض. في المقابل نجد أن هناك أمما أخرى طال أمدها قليلاً لأنها حاولت التكيف ونجحت. ما هو التغيير الذي نتحدث عن تقبله هنا؟ إنه ليس تغييرا في البيئة الطبيعية والطقس بل التغيير هنا هو تغيير في السلوكيات وتغيير في المفاهيم والأنظمة وارتفاع في القيم وتطور في ممارسة الحياة. إنه توفر المرونة التي تتماشى مع متطلبات الزمان والمكان وطلب الرزق.
المرحلة الحالية التي نعيشها في هذا الزمن تتطلب نمطاً جديداً من تقبل التغيير والتعايش معه. عالم اليوم تحكمه آلة اقتصادية حديثة وضخمة تتجاوز مفهوم الوظيفة الحكومية أو الحرف والمهن اليدوية والسوق الشعبية التي كان الناس يمارسونها ويعيشونها في الماضي. قبول الأمم للاندماج ضمن هذه الآلة يعني استمرار هذه الأمم بعد توفيق الله بينما العكس صحيح. فلا مستقبل لأي أمة مع العزلة والفقر والبطالة وقلة الحيلة مهما تنوعت الثروات التي تملكها الدول. الذي يجب أن ندركه أن سر بقاء الأمم هو الفرد وما يملكه هو وما يطمح إليه هو.
في مملكتنا الفتية، هل نحن سائرون على هذا الخط؟ هل نسعى إلى نمو دخل الأفراد تطبيقاً وممارسة؟ أنا لا أرى ذلك. إليكم هذا المشهد الغريب. نحن اليوم ننفق كدولة أكبر المبالغ المالية في تاريخنا. مليارات الريالات لكل مشروع حتى إن الصحف ووسائل الإعلام لم تعد تكترث بتغطية خبر أي مشروع لا يحمل البليون ريال كحد أدنى. لكن ومع كل هذا لم يحدث أي تطور لافت في مداخيل الأفراد. نسبة تملك السعوديين للمساكن هي الأدنى في المنطقة بل إنها وصلت إلى مستويات مرعبة عند التأمل لمضامينها وما قد تؤدي إليه. ومعدل دخل الفرد هو الأقل في المنطقة أيضاً. مبالغ هائلة تذهب إلى مقاولين فقط وعدد هؤلاء المقاولين محدود جداً ولا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. حتى تجار مواد البناء في المملكة وهذه شريحة لا يستهان بها من المجتمع لم يستفيدوا من هذه الطفرة شيئاً لأن هؤلاء المقاولين يستوردون مستلزماتهم من الخارج دون الحاجة إلى المرور بالسوق المحلي. هاهو شارع التخصصي في الرياض المليء بتجار مواد البناء ما زال على وضعه القديم. دكاكين لا تبيع إلا للأفراد وحالها لم يتغير منذ أن افتتحت قبل 30 عاماً.
الحقيقة أن مجتمعنا ما زال منغلقاً على نفسه والتنمية لا تسير بخطوط أفقية. لنأخذ مثالا آخر. رغم الحاجة للسياحة في تنوع مداخيل الوطن وزرع وظائف جديدة للمواطنين ورغم الموازنات الحكومية الضخمة فهذه الصناعة ما زالت تعاني من الكثير من العوائق اللوجستية والاجتماعية. وبدلاً من استيراد المال عبر السياح الأجانب وتنوع مداخيل الاقتصاد وبدلاً من إنفاق مدخراتنا كسعوديين في الداخل هاهو اقتصادنا يستمر في نزيفه المالي المتمثل بالتحويلات إلى الخارج سواء من المواطنين السعوديين الذين ينتظرون أي فرصة للسفر إلى الخارج أو من العمالة غير الضرورية التي تعج بها مناشطنا الاقتصادية. لقد بلغت تحويلات الأجانب للعام المنصرم أكثر من مائة مليار ريال في السنة وتحويلات السياح السعوديين إلى الخارج رقماً مشابها. ماذا بقي للداخل إذاً؟ الذي بقي للداخل هو فقط ما يكفي للولائم والوجبات الرئيسية وبعض الملابس والوقود. لا فائض ولا إيداع قد يوسع القاعدة الاقتصادية في البلاد. حتى مع البدء في استبدال أو توطين بعض الوظائف في المملكة تنفتح علينا في كل مرة أبواب المشاكل والإشكالات وترتفع الأصوات لتعطيل هذا المشروع أو ذاك وكأن المسألة ترف وبذخ وليست حاجة ملحة وضرورية لا تحتمل التأخير.
كل هذا الجمود في حال دخل المواطن رغم الحراك الظاهر أرقاماً وموازنة ومشاريع ضخمة يعتبر رفضاً لقبول التغيير الذي افتتحت به هذا الموضوع. كلنا نتحمل المسؤولية حكومة وأفراداً. ما الحل إذاً؟ الحل في نظري هو دراسة هذه الظاهرة والتنبيه بعواقب البطء في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بتحسن حال الفرد. المجتمع بحاجة إلى المرونة وتطوير التشريعات حتى الدينية منها، والأخيرة مسؤولة عن الإبطاء في إلحاق المرأة بسوق العمل. المجتمع بحاجة إلى خلق ما لا يقل عن مائة ألف وظيفة في السنة ولمدة خمس سنوات قادمة يشغلها سعوديون وسعوديات. ما لم نخطط لمثل هذه الإستراتيجية ونطبقها فإننا سنقع في الجانب الآخر من مقولة داروين. وقد نجد أنفسنا في أحد الأيام على كراسي المعاقين وهي حالة لا يتبعها إلا الدخول في غرف الإنعاش.