إنه يريد مشروعاً يعفي الحكومة ويمول نفسه ذاتياً، ويحقق أرباحاً لمواجهة النمو وأرباحاً أخرى للمساهمين.. وكل هذا لا بد أن يأتي من أجور الخدمات التي سيحصلها المطار من مستخدميه، أي إنه لا بد أن يتم رفع الأجور الحالية وإيجاد أجور جديدة عالية وهذا في ظني أمر صعب

فاجأني المهندس عبدالله رحيمي رئيس هيئة الطيران المدني بما ذكره عن أسلوب تمويل مشروع مطار الملك عبدالعزيز الذي ستبلغ تكلفته 27 مليار ريال، وأعتقد أنه قد فاجأ الكثيرين، فقد قال إن تمويل المشروع سيتم من خلال إصدار صكوك أو سندات إسلامية ستصدر للسوق خلال الستة الأشهر القادمة، وإن ذلك سيكون على دفعات بحيث تكون كل دفعة ما بين 4.5 إلى 6 مليارات ريال.
لقد استغربت ما قاله عندما قرأته منقولاً عن القناة العربية، لأني أعرف أن المملكة لا تعاني من مشاكل تمويلية لمشاريعها بل على العكس لديها فائض كبير، ثم تكشَّفت لي المسألة من خلال ما قرأته بعد ذلك في ثنايا حديثه عندما كرر ما سبق أن قاله سابقاً هو وغيره من أن هيئة الطيران المدني تتجه إلى تحويل إدارة المطارات السعودية من الإدارة الحكومية إلى شركة تجارية أو عدة شركات تابعة للحكومة تهدف للربحية، وتوقع أن يتم الإعلان عن تأسيس وتسمية الشركات التي ستدير المطارات السعودية ما بين 12 إلى 18 شهراً، ثم جاء بالزبدة بعد ذلك فقال إن من المحتمل طرح تلك الشركات في الاكتتاب العام للجمهور على شكل شركات متعددة أو عبر شركة واحدة تجمع الجميع.
وقد تذكرت عندما وصل إلى هذا الحد من كلامه، تصريحاً قريباً من ذلك أطلقه منذ أكثر من سنتين معالي وزير المياه والكهرباء عندما كانت شركة المياه مشروعاً، فقد قال إن شركة المياه ستطرح في الاكتتاب وإنه واثق أو إنه قال يأمل في أن يحقق طرح الشركة نجاحاً مشابهاً لما حققته شركة الاتصالات من نجاح دون أن يأخذ في الاعتبار أن سبب نجاح تخصيص شركة الاتصالات هو ارتفاع تعرفة خدماتها مما يعطيها دخلاً كبيراً، بخلاف شركة المياه التي تنخفض تعرفتها كثيراً فلا تستطيع بسبب ذلك الاستغناء عن الدعم الحكومي، فلو تركت الحكومة دعمها دون رفع التعرفة لفشلت الشركة في الحال.
المهندس عبدالله رحيمي يريد كما يبدو أن تكون مطاراتنا مثل بعض المطارات العالمية كيانات اقتصادية قائمة بذاتها ومملوكة لشركات تدار بطريقة اقتصادية بغرض تطبيق أنظمة وكوادر مالية تمكنها من استقطاب الكفاءات فتتطور أوضاعها ويرتفع مستوى خدماتها، وهذا أمر طيب ولكنه يتطلب توفير موارد مالية كبيرة، ورئيس هيئة الطيران المدني يأمل فيما يبدو أن تتمكن المطارات بعد هذا التحول من توفير هذه الموارد المالية الكبيرة من أجور الخدمات الجديدة التي ستفرضها على مستخدمي تلك المطارات وكذلك من خلال رفع الأجور الحالية حيث لا أعتقد أنه يقصد أن الأجور الحالية يمكن أن تغطي ذلك، فميزانية الطيران المدني من ألفها إلى يائها التي تمثل مصروفاتها وإيراداتها في حدود السبعة مليارات ريال ولا أدري كم تمثل الإيرادات منها ولكن أعتقد أنها ليست كبيرة ولو أخذنا مطار الملك عبدالعزيز بجدة على سبيل المثال الذي سيمول بسندات تطرح على القطاع الخاصة في حدود السبعة والعشرين مليار ريال فإننا سنجد أن الإيرادات التي يحصِّلها أخذاً في الاعتبار كامل إيرادات الطيران المدني قد لا تفي بمصاريفه المستقبلية بعد اكتمال إنشائه، فكيف ستفي إذن بفوائد تلك السندات السنوية ودفع الأقساط في مواعيدها ثم توفير أرباح تمكن من مواجهة النمو وتحسين الخدمة، وأرباح أخرى للمساهمين..؟
لا شك أن المطارات وكافة أجهزة هيئة الطيران المدني وكثيرا من أجهزة الحكومة تعاني من مشاكل عديدة، من أبرزها عدم القدرة على استقطاب الكفاءات بل وحتى عدم القدرة على الاحتفاظ بما لديها منها، الأمر الذي يؤثر كثيراً على الكفاءة الإنتاجية فيضعفها، ولا شك أن تحويل المطارات إلى شركات تدار بأنظمة مختلفة عن أنظمة الحكومة سيمكنها من إيجاد سلالم للرواتب قادرة على استقطاب الكفاءات، وهذا سيطور أسلوب العمل ويحسَّن الأوضاع، فإذا كان هذا هو هدف هيئة الطيران المدني فهو ممكن ولكنه يتطلب أن تقوم الحكومة بمضاعفة ما تخصصه من اعتمادات مالية للمطارات، فهل هذا ما يقصده المهندس رحيمي...؟ لا طبعاً.. فهو يتحدث عن تمويل مشروع المطار بسندات ويتحدث عن طرح المشروع بعد ذلك في الاكتتاب العام، أي إنه يقصد العكس.. أي يريد مشروعاً يعفي الحكومة ويمول نفسه ذاتياً فيسدد فوائد السندات وأقساطها ويغطي المصاريف المختلفة، ويحقق أرباحاً لمواجهة النمو وأرباحاً أخرى للمساهمين.. وكل هذا لا بد أن يأتي من أجور الخدمات التي سيحصلها المطار من مستخدميه، أي إنه لا بد أن يتم رفع الأجور الحالية وإيجاد أجور جديدة عالية وهذا في ظني أمر صعب في ظل أوضاعنا الحالية، وشركة المياه التي بدأت أعمالها خير دليل على ذلك، فقد كان وزير المياه يحلم بطرحها في الاكتتاب ويبشّر بنجاحها، أي إنه يتطلع إلى تحويلها إلى قطاع اقتصادي ناجح يمول نفسه بنفسه، ويحقق الأرباح، ولكن ها هي الحال الآن نراها بعد بداية الشركة فقد رأينا الوزير يواصل التصريح بعد التصريح بأنه لا نية لدى الوزارة لزيادة التعرفة، ولا شك أن شركة المياه تختلف كثيراً عن المطارات، ولكن مطاراً تبلغ تكلفته 27 مليار ريال غير قيمة الأرض الافتراضية (الحكومية) يتطلب إيرادات كبيرة لإدارته وتسديد ديونه وتحقيق الأرباح الكافية بعد ذلك.
إني أتمنى أن أسمع من رئيس الهيئة أو أقرأ له ما يؤكد خطأ مخاوفي، بحيث يقدم لنا تقديرات مكتوبة مقنعة مدعومة بالأرقام، وحتى يتم ذلك أقول إنه لا مانع أن يكون لنا أحلام جميلة، ولكن كان وما زال لنا حلم قديم جميل ظللنا أكثر من عشرين عاماً نحاول تحقيقه، وهو تخصيص الخطوط السعودية وقد فشلنا مع الأسف على الرغم من كل محاولاتنا إخراجه إلى النور، وهو أسهل وأدعى للنجاح من تخصيص المطارات، فإذا كنا لم ننجح في تحقيق ذلك الحلم القديم الذي يبدو للمتأمل وكأنه أسهل من شرب الماء فهل يلحقني اللوم إذا تخوفت من تحقق هذا الحلم الذي يبدو وكأنه أصعب من شرب الدواء..؟
لقد سبق للمهندس رحيمي أن قال ـ على ما أذكر ـ إن الهيئة أجرت دراسات حول ذلك ورفعتها للمجلس الاقتصادي الأعلى، وأتمنى أن تكون تلك الدراسات قد أقنعت المجلس، ولكني لم أسمع أو أقرأ شيئاً عن ذلك حتى الآن.