لنبتعد عن المكاسب الشخصية وصرف جهدنا ووقتنا وإشغال وسائل إعلامنا بموضوعات لا تحقق لنا الريادة في عالم وصلت فيه دول كانت ـ إلى عهد قريب ـ في مؤخرة الركب إلى الريادة
طغى على الساحة الثقافية والإعلامية منذ أسابيع نقاش موضوع الليبرالية بشكل يستدعي طرح عدد من الأسئلة حول محتوى ومستوى النقاش ومستوى اللغة المستخدمة في هذا النقاش من قبل عدد من المثقفين المحسوبين على الثقافة السعودية.. ومن هذه الأسئلة:
ما الهدف الأساسي الذي انطلق منه هذا النقاش ؟
وما المحطة التي يراد الوصول إليها في نهاية المطاف؟
وما الخدمة التي يقدمها هذا النقاش بهذا المستوى لثقافتنا لمثقفينا ومجتمعنا ووطننا؟
وهل هذا النقاش عقلاني بمحتواه ومستواه ولغته؟
وهل نحن كمجتمع وكثقافة نحتاج فعلاً إلى هذا النقاش كي يسد فجوة لابد من سدها؟
هذه أسئلة مهمة لابد من الإجابة عليها كي نعرف أن نقاشا مثل هذا الموضوع مهم بالدرجة والحدة والكثافة التي رأيناه بها.
عندما بدأت شرارة هذا الموضوع، لم ينقدح للمتابع لا بالأمثلة التي طرحت ولا بالحيثيات التي وردت أن مثل هذا الموضوع يستحق الأهمية التي شغلت المساحات التي كتب فيها ولا الوقت الذي صرف في مناقشته عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.. ولكم أن تعودوا للأمثلة التي طرحت والحيثيات التي عرضت لتقرروا أن ذلك حقاً أم لا.. ولم يتبين عند النقاش ما أهداف المشروع التي يراد الوصول إليها.. كل ما قيل هو اتهام ورد.. اتهام دون معرفة حقيقية للفائدة العظيمة التي ستعود على الوطن كنتيجة لطرح هذا الموضوع.
إن المراقب حقيقة ليصاب بالذهول من مستوى اللغة التي استخدمت في هذا النقاش.. ولكم أن تعودوا إلى قراءة وسماع أمثلة مما طرح لتحكموا عليه.
الحدة والحماس مطلوبان في مناقشة بعض القضايا لكن يفصلهما عن التشنج شعرة.. فإذا زاد الحماس وزادت الحدة ظهرت سلبية لا متناهية في طريقة التفكير.. وأرجو ألا يكون هذا قد كشف مستوى وطريقة تفكيرنا، فالأمم المتخلفة ـ دائماً ـ ما يكون سبب تخلفها طريقة التفكير التي تعتنقها، تلك الأمم التي ـ عادة ـ ما تفكر بطريقة سلبية مستفزة تفرق بين أفراد مجتمعها وتعادي بينهم وتشرذمهم وتكتلهم وتكوّن منهم شللاً.. كل منها ضد الآخر.. والعكس صحيح؛ فطريقة التفكير الصحيحة غالباً ما تفضي إلى تحقيق أهداف ومنجزات كبيرة.
هذا أمر في غاية الأهمية، فنحن الآن نشهد مشروعاً وطنياً عملاقاً متمثلاً في الحوار الوطني الذي يحاول مد الجسور بين أفراد المجتمع مذاهب وقبائل بهدف توحيد الجهود والتئام الشمل والعمل يداً واحدة، كلاً متكاملاً لبناء الوطن على أسس و مبادئ وقيم راسخة تبنتها بلادنا منذ تأسيسها.
لا أنادي بتطابق الآراء، فهذا غير ممكن، ولا أنادي بعدم اختلاف وجهات النظر، فهذه سذاجة، ولا أنادي بتكميم الأفواة، فلم يعد هذا أمراً ممكناً، ولا أنادي بعدم طرق وطرح أي موضوع، فطرح أي موضوع للمناقشة حق.
لكنني أنادي بأن يكون هناك موضوع يطرح بمستوى يستحق الطرح وله أهداف محدودة وآليات طرح متحضرة تستخدم فيه لغة حوار حضاري راق ويعود على المجتمع وعلى الوطن بفوائد واضحة معالمها وشامل نفعها.
وطننا مقدم على مشروع تنموي عملاق في كل المجالات.. ويتخلل هذا المشروع صعوبات وقضايا تتطلب تضافر الجهود.. كل الجهود.. من كل فرد فيه.. ويحتاج ذلك إلى جهد كل فرد في الوطن.
أنتم أيها المثقفون أدرى بهذه المشكلات.. وأفضل من يعرف القضايا ويتناولها بالتحليل والمناقشة.. وخير من يسهم في عقد الندوات وورش العمل، واستثمار منابركم المختلفة كأساتذة وكتاب وإعلاميين لتلمس هذه القضايا وإيجاد الحلول لها.. والاختلاف ثم الاتفاق ثم الوصول إلى حلول يمكن أن تسهم في رفعة بلادنا في هذا العصر الذي يتميز بالمنافسة الشرسة بين دوله إلى درجة تتطلب أن يقف كل منا على رؤوس أصابعه.
عصرنا هذا الذي نعيش الآن ألفيته الثالثة.. وبالرغّم من مرور سنوات قليلة منها يختلف حتى عن آخر سنوات الألفية الثانية.. كانت نهاية الألفية الأولى وحتى منتصف الألفية الثانية تتميز بأنها عصر الزراعة الذي مكثت فيه مئة عام، ثم انتقل العالم إلى عصر الصناعة واستمر فيها ثلاثة عقود وتحول من ثمانينات الألفية الثانية إلى عصر المعلومات.. ونعيش منذ عقد من الزمان عصر اقتصاد المعرفة.. هذا الاقتصاد الذي لا تنضب موارده.. فأين نحن من هذا العصر؟ وأين تقع بلادنا فيه؟ وماذا أعددنا كي ننافس بقية العالم؟ وما المشكلات التي تعترضنا للمنافسة فيه وتحقيقه؟ كيف نوحد جهودنا جميعاً لمناقشة تلك المشكلات وتقديم حلول فاعلة توصلنا لهذا الهدف؟
مثل هذه المواضيع تستحق الوقت والجهد وصرف ساحات المنابر ووقتها فيه..
أيها المثقفون الأفاضل أربأ بكم أن تكشفوا للعالم أنكم كضيف أبي حنيفة، فالحديث الذي يليق بكم أنبل مما نراه الآن في مناقشة هذا الموضوع.. واللغة التي يجب أن تستخدموها أسمى من تلك المستخدمة فيه. لنبتعد عن المكاسب الشخصية وصرف جهدنا ووقتنا وإشغال وسائل إعلامنا بموضوعات لا تحقق لنا الريادة في عالم وصلت فيه دول كانت ـ إلى عهد قريب ـ في مؤخرة الركب إلى الريادة. المؤسسات العلمية التي تتربعون على منابرها هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن تحقيق هذا الهدف، وهي بالمقابل المسؤولة الأولى عن الإخفاق في تحقيقه. إننا نعيش عصراً مختلفاً، إذا لم نع حقيقته ومتطلباته فسنبقى نراوح في مكاننا نتبادل الاتهامات ونستخدم قاموس الهجاء ويكون وطننا وأبناؤنا ضحية أسلوب تفكيرنا وممارساتنا.
هذه رسالة أمينة ورسالة محبة لكم أيها المثقفون. أرجو أن تعوها. وهو رأي متواضع أرجو أن تبصروه فأسوأ ما يكون الرأي عليه أن يعود لمن يملكه دون من يبصره.