في يناير 2008، نشر الباحث والاستخباراتي الأميركي (غراهام فولر) مقالة بمجلة Foreign Policy.
في يناير 2008، نشر الباحث والاستخباراتي الأميركي (غراهام فولر) مقالة بمجلة Foreign Policy تحت عنوان: (عالم بلا إسلام – A World Without Islam) ما لبثت أن تحولت لكتاب. وقد كتب الدكتور حمزة المزيني عنها في حينه. وأعيد أنا تناولها هنا على ضوء مقالتي الأخيرة.
أن يكون الإسلام بريئاً من دم ضحايا الإرهاب فهذه نظرية نفهمها أنا وأنت. الإرهابي ليس ممثلاً للقيم الإسلامية الحقيقية، إنه إنسان يحمل مفهوماً خاطئاً لها. هكذا اتفقنا بعد مداولات ونقاشات. لكن (غراهام فولر) يخطو خطوة أبعد حين يقرر بأن هذا الإرهابي الذي يحارب الغرب الإمبريالي ويفجر طائراته لم يكن بحاجة لقراءة خاطئة لنصوص القرآن والسنّة.. هو كان سيمارس إرهابه بقرآن أو بدونه.
الإسلام بالنسبة لـ (فولر) ليس سوى طارئ آخر على المشهد المعقد أساساً منذ آلاف السنين.. المعقد بالقوميات والأعراق والثقافات، وبالغزوات والإمبراطوريات المارّة والمقيمة، وبالمواقع الاستراتيجية والثروات الكامنة.
يتساءل (فولر) عن الحال لو كانت المسيحية هي الديانة السائدة في المنطقة.. عوضاً عن الإسلام. هل كان حال العرب (مثلاً) سيغدو أفضل مما هو عليه؟ هل كانو سيعتنقون الديمقراطية ربما؟ وتذوي خلافاتهم المزمنة مع “الغرب الكافر”؟
في عالم بلا إسلام، كما يتخيل (فولر)، فإن منطقتنا وبحكم قواعد التاريخ والجغرافيا كانت ستغدو تابعة للكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. هذا السيناريو لا يبدو مشرقاً أكثر من سواه. لأنه يعني أن المنطقة كانت ستعاني كل ويلات الصراع الأزلي بين (روما) و (بيزنطة). وكانت ستصبح مسرحاً آخر للعمليات ضد الكنيسة الغربية. لو لم يكن هناك إسلام فإن الأراضي التي هي اليوم مسلمة ستكون جزءاً من ميدان الحرب التي خاضها العالم المسيحي مع ذاته لقرون.
إخفاء الإسلام عن الصورة لن يلغي العداء للغرب إذاً. لنأخذ أميركا اللاتينية الغارقة في الكاثوليكية وفي الكره لتسلط الولايات المتحدة على مقدراتها ونفطها. ماذا عن الحقبة الاستعمارية ومخلفاتها التي نقرأ من خلالها صراعات اليوم؟ يجادل (فولر) بأن الإسلام لم يكن هو الدافع الأساسي لمقاومة المستعمر الأجنبي. هو كان عاملاً محلياً ليس إلا. وليبرر نظريته فإنه يستشهد بأمثلة الهند الهندوسية وفيتنام البوذية، والصين الكونفوشيوسية. هل استفادت إثيوبيا من مسيحيتها الموغلة حين اجتاحتها إيطاليا؟ أبداً. يخلص الكاتب إلى أن ردة فعل الشرق أوسطيين.. العرب وسواهم كانت لن تتغير كثيراً لو لم يكن هناك إسلام. مقاومة المحتل فعل غريزي يتجاوز الانتماء الديني. وهو يُسقط هذه الملاحظة كذلك على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فبقدر ما يصورالإعلام المقاومة على أنها محض (إرهاب إسلامي).. إلا أن المنطق يؤكد أن إسرائيل كانت ستخرج الفلسطينيين من بيوتهم سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو غير ذلك.
هل يعني كل ذلك أن الديانة الإسلامية لم يكن لها تأثير حقيقي على المنطقة والعالم؟ هذا افتراض ساذج كما يقر (فولر) ذاته. فالإسلام مثّل قوة موحِدة لطيف واسع من الشعوب والأعراق.. الذين يقع تنوعهم ذاته في صميم أزمة المنطقة. وحتى خارج الشرق الأوسط فقد شكل الإسلام جغرافيته السياسية الخاصة موحداً شعوب أطراف آسيا وإفريقيا. هذه الوحدة بعينها هي التي تستعصي على فهم المتابع والمحلل الغربي. لأن المظلة الإسلامية المشتركة هذه قد خلقت كذلك نوعاً من الذاكرة المشتركة والهم المشترك. الإندونيسي والنيجيري يتأثران سوية بما يحصل في البلقان وفي فلسطين. هذا الامتداد للانتماء الإسلامي هو ما جعل من الإسلام (حالة خاصة) بالنسبة للمستعمر/الإمبريالي الغربي. يتساءل (فولر) عن علاقة الإسلام بالنفط؟ وعن علاقته بالحركة القومية التي رسمت ملامح المنطقة وسياساتها في العصر الحديث؟ هل لو انتفى الإسلام، أكان سينفي معه القوميات الفارسية والكردية والعربية والبربرية وسواها التي تتنازع المصالح والطموح؟ هذه التساؤلات تبدو محبطة لأولئك الذين طالما وضعوا العقدة في منشار الإسلام. الذين تخيلوا أن النشرات ستخلو من أخبار التفجيرات والإرهاب والصراع بمجرد اختفاء الإسلام من الصورة. يختم (فولر) ملقياً الكرة في ملعبنا نحن المسلمين: “الإسلام ذو أثر تاريخي كبير.. لكنه اليوم ضعيف ومشتت.. ويعاني محاولة أتباعه إعادة اكتشافه”.
على ما يبدو، فإن (فولر) يلومنا نحن في النهاية على الظلم الذي نتعرض له كمسلمين. لأنك بعد أن تقرأ مقالته فإنك ستسأل نفسك: لماذا إذاً كل هذا التركيز على الإسلام.. حتى كاد أتباعه ذاتهم يصدقون مسؤوليته عن كل هذا التخريب والتأخر؟! هل هو سوء قراءة من المحلل الغربي عموماً؟ أم أنها نظرية المؤامرة العتيدة؟ وعلى ماذا يتآمرون إذا كان واحد منهم قد صرح تواً بأن الحال كان لن يتغير بوجود الإسلام أو بسواه؟ هل هو قدرنا أن نكون مُستهدفين؟ أن نجد أنفسنا سكاناً لهذه المنطقة من الأرض بالذات؟