ليس أدق وأجلى من الوثائق في تقديم صورة ناطقة عن الحراك الثقافي.

ليس أدق وأجلى من الوثائق في تقديم صورة ناطقة عن الحراك الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي وحتى السياسي الذي تعيشه الشعوب.
وإذا أراد المؤرخ والباحث أن يقف على ملامح عصر من العصور، فلا يمكنه أن يتجاوز تركة ذلك العصر العلمية، التي تأتي الوثائق في مقدمتها لما تحمله من معلومات موثقة تكشف عن ملامح الحياة بكافة جوانبها حيث ارتباطها بمعيشة الناس وحقوقهم، والحفاظ على أرواحهم وممتلكاتهم.
وتمثل سجلات الضبط القضائي في المحكمة الكبرى في المدينة المنورة ـ كما ذهب باحثون ـ واحدة من أدق وأوثق المصادر التي يمكن من خلالها دراسة التاريخ، خصوصا وأن المحكمة الشرعية بالمدينة تحتفظ بمجموعة ضخمة وعريقة من السجلات القضائية الشرعية التي تغطي فترة تمتد قرابة أربعة قرون، وكما تؤرخ تلك الوثائق التاريخية لكثير من التحولات الثقافية والاجتماعية التي مر بها المجتمع المديني خلال حقبة العثمانيين حيث توفر دراستها ـ كما كشف الباحث والمؤرخ فايز بن موسى البدارني الذي بذل مجهودا لافتا في عرض جزء منها ـ معلومات مهمة ودقيقة عن طبيعة العملات النقدية المعمول بها خلال تلك الفترة، وكذلك هيكل الوظائف الرسمية في المدينة المنورة خلال الحكم العثماني، إضافة إلى كشفها عن الحالة الثقافية التي عاشها المديني خلال تلك الحقبة التاريخية.
وتفصح دراسة المؤرخ فايز البدراني التي ضمنها كتابه المعنون بـبعض أعيان المدينة وأعلام القبائل في وثائق المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة 960 ـ 1300 عن أنه يستفاد من منطوق الوثائق القضائية إضافة لطبيعة النظام القضائي حينها، وصف الحالة الثقافية والعلمية التي كانت تعيشها المدينة، وطبيعة اللغة المستخدمة حيث شكلت العثمانية ركيزة أساسية إضافة للعربية، الأمر الذي يشير إليه عدد من الوثائق التي لم تخل واحدة منها من وجود مصطلح عثماني.
ولا شك أن تلك الوثائق، باتت ـ مع تقادم الوقت عليها ـ تمثل ثروة وطنية كبرى، ولعله مع توجه دارة الملك عبدالعزيز التي عقدت الشهر المنصرم مؤتمرا كبيرا عن تراث المملكة المخطوط يهدف لتعريف الناس بأهمية المخطوطات وكيفية الحفاظ عليها، يتم النظر بشكل جاد في كيفية الاستفادة منها فيما يخص الدارسة العلمية بعيدا عن خشية البعض من وجود من ينظر لها من زاوية إثبات لأملاك وخلاف ذلك من أمور لم تعد تلك الوثائق القديمة شاهداً عليها.
ليس المؤرخون والباحوثون وحدهم من يمكن لههم أن يستفيدوا من تلك التركة الثقافية، بل رجال الفكر والاجتماع والاقتصاد والقانون سيجدون فيها مادة خصبة تدفع نحو مزيد من الدراسات البحثية الجادة التي ترفد حراكنا الثقافي.