عندما كنت صغيرة، كنت أسمع من يقول: 'قبل عشرين سنة حدث كيت وكيت'.

عندما كنت صغيرة، كنت أسمع من يقول: قبل عشرين سنة حدث كيت وكيت. وكنت أردد في نفسي: عشرون سنة! يا له من زمن طويل، ويا لك من شخص معمّر. لكن حين كبرت الآن- بسرعة ما كنت أتمناها - فصار في عمري عشرين سنة يمكن من خلالها أن أرصد تغيّر الأشياء وأردد: قبل عشرين سنة صار كيت وكيت.
إن ما جعلني أبدأ بهذه الفكرة هو أني قابلت صديقة كنت أعرفها قبل عشرين سنة تقريباً، وكانت تدور بيننا أحاديث طويلة في ذلك الوقت. أحاديث متسائلة عن القيم والمبادئ.. عن الصحيح والخطأ.. عن سلوكياتنا المجحفة بحق الآخرين، والمرتبطة ببعض قيمنا التي لا يقبلها المنطق ولكن يفرضها العقل المبرمج. وكانت أحاديثنا مليئة بالعمق والإنسانية والتساؤل. ثم فرقتنا مشاغل الحياة لنلتقي بعد ذلك في حديث طويل سببه تغيرها وتغير تفكيرها، فلقد فوجئت بها بعد هذه السنين وقد اعتنقت نفس القيم والسلوكيات التي كنا نخضعها بحدة للتحليل والرفض. وليس فقط مجرد اعتناق، بل إنها أصبحت تدعو وتروج لها! لقد بدت لي وكأنها قد تدحرجت تماما عن الخط المستقيم، لأتساءل: ماذا حدث لها خلال السنوات الماضية حتى صارت كذلك؟ تنبهت أن ما أصابها هو الزمن، الزمن الذي كنت أظن أنه يتسرب إلينا رغماً عنا ليسرق منا صحتنا وغضاضة أجسادنا، ويسرق منا دهشة الطفولة وبهجة المغامرة، وحتى متعنا البسيطة التي يقتلها التعود. ليس هذا فحسب بل يعتدي على قيمنا وعقولنا إن لم نحمها منه ومن تقادمه.
تنبهت أيضا لشدة الشبه بيننا وبين الآلات التي نبتكرها، فنحن كبشر تحتاج عقولنا بالفعل للكالبريشون والكلمة بالعربية تعني المعايرة. وقد استعملتها بلفظها الأجنبي لأنها في كل المعامل والمختبرات تستعمل بنفس اللغة، والكالبريشون عملية يتم إجراؤها بصورة دورية على الأجهزة للمحافظة على قدرتها على القياسات المطلوبة، وكأنها جديدة وبنفس الدقة، وفي حال عدم عمل الكالبريشون فإنه مع مرور الزمن تبدأ قراءة الجهاز بالتزحزح شيئا فشيئا عن مساره الصحيح حتى تصل لمستويات خاطئة لا يمكن بعدها الاعتماد عليها.
فالكالبريشون وإن كان إجراء تقنيا إلا أن معناه عميق نحتاجه لأنفسنا، فمن الملاحظ أن الكثير من الناس يعملون كالبريشون لأجسادهم بممارسة الرياضة والتزام التغذية الصحيحة، لكن القلة القليلة يمارسونه على الروح والعقل. فهؤلاء تتوالى عليهم السنون وما زالت تلافيف عقولهم غضة تقبل التساؤل والحيرة حول الكون والحياة والموت، فلا تنطفئ رغبتهم الملحة للمعرفة وكأنهم على حالتهم الأصلية. وبالرغم من أننا وفي آخر المطاف راحلون إلا أن هؤلاء برأيي، هم الأحياء الحقيقيون.
f_faqeeh@alwatan.com.sa