إن مبدأ الإيمان باليوم الآخر على المنهج القرآني لهو من أكثر المبادئ دفعاً إلى الإنتاج والفاعلية والإبداع، فأنت بإرادة الخير وصحة القصد ثم بالسعي الدؤوب الصحيح تنطلق كالسهم إبداعاً وإنجازاً في هذه الحياة
استوقفتني عبارة سمعتها من المفكر الفيلسوف الدكتور محمد عمارة في أحد البرامج التلفزيونية وهو يقول إن الاستغراق في أعمال الفكر والبحث والتأليف (وهو رجل موسوعي في ثقافته، غزير في إنتاجه الفكري) قد أبعد عنه الكثير من الأمراض. وهذا رأي له رصيد واسع من الأدلة العلمية، إذ إن هناك دراسات علمية كثيرة تؤكد فاعلية أن ينخرط الإنسان في أمر ذي بال، ويغوص في أعماقه منتجاً ومبدعاً، ودور ذلك في تخليص الإنسان من الكثير من الأعراض المزعجة. خذ على سبيل المثال مرضى روماتيزم العضلات (الفايبرومايالجيا) أحد أمراض اللآلام المزمنة، والتي حار الأطباء في طرق علاجها، حتى أصبح دور الطبيب في عيادته لا يتجاوز دور مرشد نفسي، فقد وردت عدة دراسات عن دور جلسات التوعية الجماعية، والدروس المشتركة بين مجموعة من المرضى وبإشراف خبير/خبيرة في هذا المرض (ليس بالضرورة أن يكون طبيباً!)، هدف هذه اللقاءات الرئيسي هو إعادة صياغة حياة المرضى، وإلى إضفاء معنى وغاية ورسالة في حياة هؤلاء الذين يعانون اللآلام المزمنة، أُستخدمت أيضاً طريقة القناعة الذاتية والشبع الذهني والتأمل في علاج السمنة المفرطة، كما أن أسلوب إعادة انخراط الإنسان في عمل ذي بال، والتأمل العميق، من الأساليب المستخدمة في علاج الاكتئاب، ومن المعروف علمياً أن الإنسان حينما يكتئب تضعف مناعته ويصبح عرضة للأمراض...
والحق أن الاستغراق في إعمال الفكر والرأي لهدف ما أو لإنجاز أمر ما هو دأب العلماء والمفكرين على مر العصور، يقول الإمام مالك بن أنس: ربما وردت علي المسألة فأمضي فيها عامة ليلتي، بل ربما وردت المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم. ويقول أيضاً واصفاً حال نفسه وفكره الذي لا ينفك عن العمل، والذي استغرق ولعاً في التفكير والبحث والتأمل: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن. وإن ما حدث من طفرة علاجية لأمراض الروماتيزم، حتى أصبح من الممكن الحديث عن الكمون الكامل لمرض التهاب المفاصل الروماتيزمي لأول مرة في تاريخ هذا المرض، إنما جاء بفضل العلاجات البيولوجية التي استمر عليها دأب عدد من العلماء عكفوا على اكتشاف مركبات دقيقة لها دور فعال في هيجان هذا المرض طوال فترة التسعينيات الميلادية تقريباً، إلى أن تم إجراء التجارب على الحيوان ثم – بعد التأكد من سلامتها- على الإنسان، في جهد وتصميم علمي تعجز الكلمات عن وصفه!
وهذا المبدأ معروف من مبادئ الحياة، وهو أن الانشغال والاستغراق في مبدأ سامٍ يهدف إلى منفعة وخير الفرد والناس والمجتمع سواء أكان هذا الاستغراق فكرياً أم بدنياً، لهو من أصح علامات الحياة السعيدة الهنية، لا فرق بين العلماء والمفكرين وسواهم من الناس، إذ حقيقة لا وجود لفرق كبير-على رأي المنفلوطي- بين من نسميهم علماء ومن نسميهم جهلاء (أو غير علماء)، إذ إن فريق العلماء يعرف معلومات معينة وتطبيقات معينة بطريقة منظمة، فيم الآخرون قد يعلمونها ولكن بطريقة مبعثرة، والقضايا الكونية المتعلقة بالخير والشر والنفع والضر، والمسائل المنوطة بالإنسان في حياتيه المادية والمعنوية، يشترك في العلم بها الناس جميعاً عامتهم وخاصتهم، بل من عامة الناس من يملك نظرة كونية حياتية فيها نضج وإنفتاح وإنسانية، تفوق كثيراً نفراً ممن يُسمَون علماء بضيق أفقهم وسوء سلوكهم.
إن قوانين العمل والإنتاج والفاعلية التي تفضي إلى السعادة النفسية موجودة مبثوثة في كتاب الله أينما قرأت، وكمثال:ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا سورة الإسراء 19 ( 19 ).
إن مبدأ الإيمان باليوم الآخر على المنهج القرآني لهو من أكثر المبادئ دفعاً إلى الإنتاج والفاعلية والإبداع، فأنت بإرادة الخير وصحة القصد ثم بالسعي الدؤوب الصحيح تنطلق كالسهم إبداعاً وإنجازاً في هذه الحياة، إن واجهتك صعوبات استعنت بالله وتغلبت عليها، وإن وقف أمامك المثبطون أو اعترضك الحاسدون القاعدون، لم تكترث بهم، ولم تعبأ بشأنهم، بل لعل رياح عملك وإنجازك تهب عليهم، فتنفض الغبار الذي علق في نفوسهم، أو لعل نسيم إبداعك وروعته، يلين قلوب القساة، ويدفع الكسالى للعمل والإنتاج، أو إن لم تكن هذه ولا تلك، فلعل نار عزمك ولهيب إرادتك، تحرق الشر وأهله، وتبيد الخبث ومريديه، وتذهب الصدأ ومن استمرأه، وتساعد الحساد على حرق ما بقي في نفوسهم من حسد وغل وحقد، وأنت حين تنتقل في عملك وإبداعك وإنجازك من محطة إلى أخرى لا تعبأ كثيراً بتقدير الناس وشكرهم لك (على أهمية هذا التقدير في دعم العاملين المبدعين في كل مجال وفي كل قطاع)، لأن في مجتمعنا وللأسف جحودا ونكرانا، وغيابا لثقافة الثناء على المبدعين وتكريم المنتجين إلا بعد أن يموتوا! وأنت لا تعبأ بهذا، لأن لك نفساً كبيرة، ذات نظرة بعيدة، لا تتعامل مع العباد بل مع رب العباد، ومع من ملك الدنيا والآخرة جميعاً، وإذا أصلحت ما بينك وبين الله، أصلح الله ما بينك وبين الناس (كما يقول ذو النون المصري)، فلا تلتفت إلى الناس ولكن التفت إلى رب الناس. هذا هو المعنى العملي الفعال الذي يجب أن نفهمه كأحد أهم معاني الإيمان باليوم الآخر، وهو أن يكون طاقة مولدة للعمل والاستغراق في عالم الإنجاز والإبداع، لا أن يكون مجرد مشاعر خوف ورعب، لا يلبث الإنسان إلا أن يرغب في تجاهلها وصرف التفكير عنها، أو أن يكون خوفاً فاضحاً كاذباً قاصراً، لا يفهم من الطاعة إلا الصلاة والصيام وينسى مفهوم العمل الصالح الذي بثه القرآن شاملاً الدنيا وما فيها! ولعل أحد معاني مفهوم الشكر الوارد في الآية الكريمة كان سعيهم مشكوراً، المنسوب لله سبحانه وتعالى، هو الشكر في الدنيا في صورة سعادة نفسية، وطمأنينة، وصحة جسدية!
أتمنى أن أكون قد أقنعت قارئي الكريم بضرورة الاستغراق في أمر ذي بال، وأنك في هذا الاستغراق ستحقق سعادة وصحة وطمأنينة يغبطك عليها الكثيرون، أما إن لم يكن لك ما تنغرق فيه، فإني أنصحك أن تبحث عنه..!