'مضى وقت طويل منذ أن ارتكب بولارد فعلته وقد حان الوقت لإطلاق سراحه بعد أن تمت معاقبته بما فيه الكفاية'.. هكذا يظن نتنياهو وهكذا يعتقد! إلا أن الحكومات الأميركية المتعاقبة والشعب الأميركي كان لهم رأي مخالف، ولذا كان الرفض هو الجواب المتكرر لأي محاولات صهيونية للإفراج عنه

لم أفاجأ عندما نقل إلينا الإعلام منذ أيام أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو طلب رسميا من الرئيس الأميركي باراك أوباما العفو عن الجاسوس الأميركي جوناثان بولارد المسجون منذ 25 عاما في الولايات المتحدة بتهمة التجسس لحساب الكيان الصهيوني، فتعصب نتنياهو لهذا الجاسوس معروف فقد سبق لنتنياهو في فترته السابقة أن زاره في سجنه بشكل علني، كما طلب في عهد كلينتون الإفراج عنه، ولذا لم أفاجأ برسالته التي بعثها إلى أوباما والتي جاء فيها: (مضى وقت طويل منذ أن ارتكب بولارد فعلته وقد حان الوقت لإطلاق سراحه بعد أن تمت معاقبته بما فيه الكفاية).. هكذا يظن نتنياهو وهكذا يعتقد! إلا أن الحكومات الأمريكية المتعاقبة والشعب الأمريكي كان لهم رأي مخالف، ولذا كان الرفض هو الجواب المتكرر لأي محاولات صهيونية للإفراج عنه.
بولارد أصبح في منظور الكيان الصهيوني بطلا فوق العادة فهو قد خان وطنه لمصلحة الصهيونية واعترف بذلك، ففي عام 1985م، ألقت السلطات الأميركية القبض على جونوثان بولارد الجاسوس الأميركي الجنسية، اليهودي الديانة والصهيوني الولاء، وهو المحلل للجاسوسية المضادة في وحدة مكافحة الإرهاب التابعة لمخابرات سلاح البحرية الأميركية، والذي سرعان ما اعترف بنقله ولمدة عام كامل معلومات غاية في السرية للاستخبارات الصهيونية، لقد اختلس ما لم ينجح السوفيت طيلة الحرب الباردة في اختلاسه، إذ اشتملت اختلاساته على معلومات حساسة عن تكنولوجيا أشعة الليزر والأسلحة الأميركية، وعلى معلومات سرية عن القوات البحرية والألغام، والتسهيلات في موانئ البحر الأبيض المتوسط، وعلى دليل ضخم يعرف باسم (الكتاب المقدس) يشتمل على الاستراتيجية التي سيتبعها الأسطول البحري الأميركي إذا تعرض للهجوم، ومعلومات تفصيلية عن قوة دروع العراق، وعن مواقع منظمة التحرير الفلسطينية في تونس بكل دقة، بما فيها منزل الرئيس ياسر عرفات، وهكذا تمكنت الطائرات الحربية للكيان الصهيوني، من الإفلات من المراقبة البحرية والجوية الأميركية في البحر المتوسط خلال هجومها الجوي في أكتوبر 1985م على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، والذي أسفر عن قتل مئة شخص أغلبهم من المدنيين التونسيين, كما تمت الاستعانة بهذه الوثائق في عملية قتلهم مساعد القائد العام لمنظمة التحرير أبو جهاد في تونس، ومن خلالها تمكن الاتحاد السوفيتي العدو لأميركا آنذاك من الحصول على الوثائق التي اشتملت على معلومات استراتيجية عن قوات الدفاع الأميركية في تركيا وباكستان وبعض الدول العربية، هذا ما أكدته مصادر من الاستخبارات الأميركية، وقد كانت هذه الوثائق من الضخامة بحيث قيل إنها تملأ صندوقاً عرضه ست أقدام، وعلوه عشر أقدام!.
ولخطورة تلك الوثائق كتب وزير الحربية الأميركي آنذاك كاسبر واينبرغر مذكرة من 46 صفحة كدليل إثبات على عظم خيانة بولارد، طالب من خلالها إنزال أقصى العقوبة عليه، وهي السجن مدى الحياة، قائلا: (لقد أوقع بولارد ضرراً فادحاً لا يمكن تلافيه، وذلك لتعريضه حياة العملاء الأميركيين للخطر، ولما يشتمل عليه من تهديد غير مقبول للقوات الأميركية حيثما كانت.. لقد حطّم وخرّب سياسات وممتلكات وطنية استغرق بناؤها سنوات طويلة وتطلب جهداً عظيما وموارد هائلة..). وبتبجح فريد من نوعه اعترف بولارد بخيانته قائلا: (إنه كان لا بد أن يخدم إسرائيل بكل إخلاص ..فهو يهودي)، وفي عام 1987م حكم عليه بالسجن مدى الحياة.
وما أن ظهرت معالم هذه الجريمة على الملأ حتى بادر الكيان الصهيوني بشجبها وإدانتها وأنكر موافقة السلطات الصهيونية عليها، كما عرض ‍‍التعاون التام مع المحققين الأميركيين، ووجه الوزير آنذاك (شمعون بيريز) اعتذارا علنيا إلى الحكومة الأميركية هذا نصه: (إن حكومة إسرائيل مصممة على بذل جميع الجهود للخروج بتحقيقات شاملة مفصلة حول العملية، إن حكومة إسرائيل تعد حكومة الولايات المتحدة الأميركية أنه في حالة إثبات التهم فإن المسؤولين سيتحملون النتائج بالتأكيد).
والحقيقة أن الحكومة الصهيونية حملت كافة أطراف المشاركة في هذه العملية المسؤولية الكاملة فبعد صدور الحكم على بولارد بالسجن مدى الحياة، أمر الكيان الصهيوني مباشرة مضاعفة المكافأة الشهرية المخصصة لبولارد، والاستمرار في إيداعها في حسابه الخاص، كما صدر الأمر بترقية المتعاونين معه وهما (رفائيل إيتان) الذي كان مستشاراً سابقا لرئيس الوزراء لشؤون الإرهاب، ثم رئيساً لمكتب الارتباط العلمي، و(أفييم سيلا) العقيد النشط في سلاح الجو، الذي كان في أميركا بهدف دراسة الكمبيوتر، فقد عين (إيتان) مكافأة له رئيساً تنفيذياً لأكبر تجمع صناعي كيمائي يملكه الكيان الصهيوني، أما (سيلا) فقد حصل على ترقية من رابين نفسه إذ سلم قيادة أكبر قاعدة جوية (تل نف) في الكيان الصهيوني، وهو في العادة المنصب الثاني بعد منصب قائد القوات الجوية، كما تلقى جائزة أخرى إذ رفضت حكومة الكيان الصهيوني طلبا أميركيا بتسليمه لمحاكمته، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الجاسوس الأميركي الذي قام بجريمته تلك وهو يحمل الجنسية الأميركية، وفي عام 1995م منح الجنسية الصهيونية ليكون هذا المنح منفذا قانونيا لطلب سلطات الكيان الصهيوني الإفراج عنه.
القصة لم تنته عند هذا الحد، فبعد أن قضى بولارد سنوات من عمره في السجن الأميركي هداه فكره للكتابة، لكن كتابته تلك لم تكن رسالة اعتذار يوجهها للحكومة الأميركية والشعب الأميركي يظهر من خلالها ندمه على خيانته لوطنه، والتي تعد الأخطر من نوعها في التاريخ الأميركي، هذا الرجل لم يظهر طيلة سنوات سجنه أي دلالة للندم جراء ما اقترفته يداه، فقد كانت كتابته موجهة للكيان الصهيوني، تارة ليحثها على السعي لإطلاق سراحه، وتارة أخرى ليطلب منها سفك دماء الأسرى الفلسطينيين، فقد دعا إلى قتل أسير فلسطيني يومياً إلى أن يتم الإفراج عن الجندي الصهيوني جلعاد شاليط الأسير لدى حركة حماس، والمضحك في طلبه هذا هو تعامل الصحف الصهيونية معه، فقد تعاملت معه وكأنه شخصية رسمية، وها هي صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، تقول: (إن بولارد عارض بشدة الاتفاق المقترح مع حركة حماس والذي يقضي بإطلاق 980 أسيراً فلسطينياً، مقابل استعادة شاليط، واعتبر أن إطلاق سراح الفلسطينيين مقابل الإفراج عن شاليط يعتبر شتيمة)، كما نقل أنه قال للناشطين من تكتل الليكود موشي فيغلين وشمويل ساكيت زاراه في سجنه، إنه لا بد أن يعود شاليط، لكن التفكير بأنه سيتم الإفراج عن السجناء الفلسطينيين جعله (يغلي من الغضب)، وقال: (بدلاً من ذلك، على نتنياهو أن يأخذ لائحة السجناء التي اقترحها الفلسطينيون فيقتل واحداً منهم كل يوم إلى أن يتم إطلاق سراح جلعاد من السجن، فلا يجب أن يحرر الإرهابيون مهما كان الثمن)!.
ألا تعتقد أيها القارئ أن بولارد لم يجانب الصواب عندما قال:( فلا يجب أن يحرر الإرهابيون مهما كان الثمن).
ها أنا وفي مفارقة غريبة أجد نفسي موافقة لبولارد الذي يعد من وجهة نظر أميركية بحتة أخطر مدان أميركي عرفه التاريخ الأميركي، مجرم خان وطنه وتسبب في الإضرار به بشكل غير مسبوق، وتبجح واعترف بخيانته وأصر عليها، وهو بعد سنوات قضاها خلف القضبان ما زال ذلك الرجل المجرم والخائن الذي عرف به.