المسيحيون العرب هم أيضاء منتمون لمحيط الثقافة الإسلامية، تأثروا على مدى القرون الماضية، وتعايشوا وأسهموا في بناء الحضارة الإسلامية الثقافية خلال القرون الطويلة الماضية، والتاريخ يؤكد ذلك
مشهد:
سيدة تنوح، تكاد تتقطع ألماً على فقدان ابنتها التي ذهبت للتعبد في الكنيسة فلم تعد.. تم تدميرها.. والأشلاء تتناثر في المكان بعيداً عن الروحانية!
عادت الهجمات الإرهابية على الكنيسة القبطية في الإسكندرية، في ليلة الميلاد، بتفجير إرهابي أيقظ الأذهان على أن العالم العربي يعيش أزمة دينية، فحجم الصورة القاتمة للكراهية يبعث على الخشية المستقبلية من تضاؤل فرص التعايش والسلام في المجتمعات العربية، وخاصة تلك المتباينة طائفياً ودينياً، حيث أُعيدَ إنتاج هذه الصورة من جديدة بعد انتقال عدوى الحالة العراقية إلى مصر خلال الفترة القصيرة الماضية. ففي العراق شهدنا تدمير كنيسة آشورية بهجوم إرهابي، كان نتيجة يأس من الحياة، وقرار كثير من العائلات العراقية المسيحية الهجرة إلى الشمال. وخلال السنوات القليلة الماضية شهدنا أيضاً موجة من التدمير طالت المساجد السنية والشيعية بطريقة تبادلية، وربما ظننا حينها أن ذلك نتيجة شبه طبيعية لحالة الاحتقان التي يعيشها العراقيون، غير أن ذلك لم يكن خاصاً بالعراق كحالة استثنائية، إنما انتقلت فوضى العداء والكراهية إلى الجزائر حيث تم تدمير كنيسة في شمال البلاد بهجمة إرهابية، ومع دخول السنة الجديدة انتقلت العدوى ذاتها إلى أرض الكنانة، تلك البلاد المسالمة والشهيرة على مر التاريخ بتعايش أهلها بين بعضهم البعض، رغم اختلاف الأديان والطوائف والأعراق. إلا أن البلبلة والفتنة الدينية في مصر سبقت التدمير الأخير لكنيسة الإسكندرية، ومن ذلك أحداث (الكشح) الشهيرة في صعيد مصر، وتلاها عدة مشكلات أخرى كان محركها النزعة الدينية المتطرفة، وكراهية الآخر المختلف. وبالعودة إلى التاريخ، خلال العقد الماضي، نجد أن أحداث سبتمبر 2001 لم تكن سبباً في انتشار موجة الكراهية بل كانت نتيجة لها، حيث إن الاحتقانات والمكبوتات الفكرية والاجتماعية والسياسية- في العالمين العربي والإسلامي- ظهرت على شكل اعتداءات انتحارية!
وكأن (غزوة منهاتن) هي فكا الكماشة التي حاصرت فرص التعايش ووضعت المجتمعات الإسلامية والغربية في مأزق كبير، تباعدت من خلاله المسافات الإنسانية، واتسعت فرص التعصب بانفجار موجة من الكراهية التي يغلفها (الدين) كدافع إيديولوجي، لكن يجب أن نؤمن بأن ذلك ليس نهاية العالم!
على الرغم من أن العالم العربي يعيش اليوم حالة احتقان قاتلة، هي نتيجة تراكمات سياسية واجتماعية ودينية، يبدو أننا كسعوديين لن نكون خارج إطار هذا الاحتقان كحالة عربية/إسلامية عامة، والأحداث الأخيرة في المدينة المنورة (أحداث قباء) انتقلت من إطارها الاجتماعي العادي إلى إطار طائفي مقيت، وهنا دليل على وجود حالة طائفية كامنة في المجتمع مبنية أساساً على أحاكم مذهبية أو دينية مسبقة لدى الطرفين!
في مثل الأحداث المزعجة والخطرة يجد المواطنون في البلاد العربية، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسنة- أنفسهم داخل أتون هذه العاصفة، يمارسون بلا وعي نفي أنفسهم وتفتيت مجتمعاتهم، ربما معتقدين أنهم يحافظون على هويتهم، بينما قد ينفذون من حيث لا يشعرون مصالح سياسية لا تعود عليهم بأي فائدة؛ ولهذا يفترض أن تدرك السلطات السياسية العربية أن مثل الاحتقانات الطائفية والدينية خطر مستقبلي على الدولة ككيان اجتماعي وسياسي، وتبادر إلى دراسة هذه المشكلات بشكل علمي متعمق.
صحيحٌ أن الكراهية بين المسلمين والمسيحيين الأوروبيين كانت ذات أبعاد تاريخية عميقة، تدور رحاها حول مطامح سياسية واقتصادية صرفة، أسهمت بصناعتها وتنميتها الحروب الصليبية، والاستعمار، ودعم إسرائيل، واستمرت هذه الحالة بوجود الجشع والتجاوزات والظلم مما جعل التعايش والانفتاح على الآخر طريقاً صعباً ومحفوفاً بالمخاطر!
في زمننا هذا لم تعد الكراهية مقتصرة على المحيط الثقافي للإسلام والغرب، وإنما أصبح المحيط الإسلامي ذاته يعاني من مشكلة كبيرة تتمثل بنفي الآخر القريب، بل صرنا نشهد إصراراً على هذا الموقف المتشنج، من خلال طروحات متشنجة تحاول الحفاظ على مصلحتها الذاتية، ومن ذلك ما يشاع بأن أتباع هذا (المذهب) أو هذا (الفكر) هم الأخطر علينا من أعدائنا الظاهرين، وهنا نكون قد وصلنا إلى درجة تحتم علينا النظر إلى أن الأمر أزمة تطرف!
فمعظم الظروف الآن تحتم نبذ الأفكار المتعصبة، ولكن هناك شروطا لا يفترض إهمالها. يقول الدكتور هاشم صالح إن الحوار بين الإسلام والغرب يقوم على شرطين مهمين: الأول أن يتراجع الغرب عن كرهه الشديد والمتأصل للإسلام، وأن يعترف بالإرث الحضاري العربي-الإسلامي ومدى تغذيته للحضارة الأوروبية. وهذا الشيء بدأ يتحقق أخيراً على يد بعض المفكرين المتحررين من الأحكام المسبقة والعدائية ضدنا... وأما الشرط الثاني فهو أن يتغلب التيار العقلاني في العالم العربي على التيار المتطرف والمخطئ في فهمه لرسالة الإسلام السمحة.
ويمكنني القول إن الشرط الأول خاص بالإسلام والغرب، أما الشرط الثاني فهو الأهم على الصعيد العربي-العربي، فالطروحات العقلانية ما زالت تصارع التطرف ولكنها لم تنتصر عليه، نتيجة عدم إتاحة الفرصة لها للانتشار على المستوى الاجتماعي والثقافي؛ وغالباً ما تكون هذه الطروحات خارج الحسبان في عملية التخطيط للتنمية.
المسيحيون العرب هم أيضاء منتمون لمحيط الثقافة الإسلامية، تأثروا على مدى القرون الماضية، وتعايشوا وأسهموا في بناء الحضارة الإسلامية الثقافية خلال القرون الطويلة الماضية، والتاريخ يؤكد ذلك، لكن شيوع التطرف الديني نسف التاريخ، والتسامح الإسلامي، وحقوق المواطنة، ليكون كل مصير أي مختلف هو القتل؛ وإذا لم يعالج هذا الأمر على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي، فسيكون المستقبل مظلماً.. وبالتالي فإن الأجيال القادمة هي من يدفع ثمن هذه الكراهية!