الالتحام بالعجلة الدائرة والاندغام بها، في صورة لاهثة؛ تقطّع الأنفاس، وتخدِّر الحواسَ عن التقاط بهجة المشهد العابر بما هو مرئي ومسموع وملموس؛ المنحة المضافة إلى المختبر اليومي. لا أحد يلتفت إليها. لا أحد تسترعي انتباهَهُ. تستقرّ في القاع، وتنسحق تحت فائض الضغط وفائق الجرعات الشديدة من الضبط على إيقاع المهمّات السريعة والمستعجلة. لا فسحة للتمهّل، ولا وقت مستقطع للتريّث والوقوف؛ تأمّلاً واستدخالاً لما يجعل النبضَ أقلّ تسارعاً وأكثر هدأةً؛ ما يجعلّ السكينةَ تغطّ، برهةً، في الديار، وتمسح عرقاً لا يريد صاحبُه أن يجفّ أبداً.
دولاب خشن مُسنّن يلتحقُ به الجسدُ؛ فكراً وعاطفةً وسلوكاً. معه تنغلق النوافذ وتُوصَد الأبواب، وتتعطّل مُباشرةُ المشاهد والأشياء في عمقها الزّاخر بالمعنى وبالوجود. الاكتفاء بالسطح الهش وقشوره المتطايرة؛ المترعة بالجفاف وكسورِ الهشيم. الوجود المعلّق على سارية التأجيل؛ إلى يومٍ آخر؛ إلى العطلة؛ إلى الإجازة؛ إلى التقاعد؛ إلى يومٍ ما لا يأتي.
إن العِصابةَ المطبقة على العينين تمارس ـ بمهارةٍ فذّة ـ الحجبَ والترحيلَ والانتظار إلى ساعةٍ قادمةٍ وشيكة، ليستْ إلا مظهراً من مظاهر العمّى المضاعف عن الآن وهنا. بانحسار الرؤية وافتقاد الإصغاء إلى اللحظة وامتلائها الحسّي، يلفي المرء نفسه مُقاداً خارج الحركة الحيّة؛ نائيّا عن الشعلة واضطرابِ لهبِها بما هو إحساس ومشاعر.
في كتابه عن سيكولوجية العلاقات الإنسانية، يورد إيريك بيرن حكاية دالّة عن صيني وصديقه. كان الصيني يستقلّ قطارا بطيئا، فنصحه صديقه بأن يركبا قطارا سريعا؛ فيمكنهما بذلك توفير عشرين دقيقة. استجاب الصيني لنصيحة صديقه، وركبا القطار السريع. حينما نزلا من القطار عند إحدى الحدائق؛ توجّه الصيني يقتعد كرسيّا في الحديقة، وسط نظرات صديقه المندهشة، وطلب منه تفسيرا. قال الصيني ببساطة لقد وفّرنا عشرين دقيقة في مشوارنا؛ فلنستثمر هذه الدقائق في الاستمتاع بالنظر.. إن تصرّف الصيني في الحكاية مثال على الشخص الواعي الحي؛ يدرك ما يشعر به في اللحظة ذاتها، وفي الزمان والمكان. إنه يعلم أن الأشجار وموجودات الطبيعة الأخرى ستظل ّباقية بعد رحيله وموته. إنما هو لن يُخَلَّد إلى الأبد، فنراه يغتنم ما يسنح له من فرص ومن أوقات ينظر إلى الطبيعة وأشجارها، ويستمتع بملء كيانه دون أن يفرّط أو أن يؤجّل. أو كما يقول إيريك بيرن في تعبيرٍ نافذ: وذلكم هو السبب الذي من أجله يريد هذا الشخص أن ينظر إليها الآن بأكبر قدرٍ من الحِدّة الممكنة.