لا يزال حق حماية المرأة من الإيذاء النفسي والمعنوي والجسدي بقوانين واضحة ومطبقة ونافذة على الحياة الاجتماعية القائمة على الرعوية الأبوية، أمرا ملحا سيُحل معه كثير من الإشكالات، وما زالت المرأة بحاجة لسن تشريعات وقوانين تحميها
في لفتة جميلة دأبت صحيفة الوطن السعودية منذ عدة أشهر على نشر مقالة في صفحة الرأي لأحد كبار الأدباء أو المثقفين أو المفكرين تحت عنوان «كتاب غائبون ومقالاتهم حاضرة»، ولفت نظري مقالة قديمة للكاتب القدير عبدالله إدريس من أحد افتتاحياته لجريدة الدعوة عام 1965 حينما كان رئيسا لتحريرها. كان عنوان هذه المقالة «حقوق المرأة والرعونة الفكرية». أكد فيها -رحمه الله- أن من حق المرأة الحياة الكريمة التي منحها لها الشارع دون إفراط أو تفريط، ذاكرا أربعة نماذج وهي: حق التعليم، واختيار الزوج، وقضية المهور المبالغ فيها، والحض على منح المرأة المساحة لإبداء رأيها -على الأقل- في شؤونها الخاصة وممتلكاتها.
واليوم ونحن في اليوم العالمي للمرأة في الثامن من مارس لعام 2019 لو قرأت الفتيات من هذا الجيل هذه المقالة بهذه المطالب التي كتبت بجدية قبل نصف قرن لتعجبت من كثير مما فيها.
في التطور التاريخي للمجتمعات يقاس تقدمهم بمدى التقدم الإنساني لديهم، خاصة فيما يمس حقوق المرأة، نعلم أنه في تلك الفترة كانت هناك ممانعة شديدة لتعليم المرأة وصلت حد التحريم لولا تدخل صاحب القرار آنذاك وجعلها أمرا إلزاميا للجميع، حتى بات تعليم البنات والأولاد أمرا طبيعيا لا غرابة فيه. ولكن هل بقي في العصر الحديث وفي عصر الرؤية الواعدة والوطن الطموح من يمانع تعليم المرأة أو يقف في طريق طموحها؟ قد تكون الإجابة العامة: لا، لا يوجد بالطبع لأن التعليم العام إلزامي ضمن سياسة المملكة للجميع، ولكن قد يتعثر هذا الطريق أمام الفتاة أو تحرم من فرص تعليمية أو وظيفية في الوقت الحالي، لأن هناك بعض الأنظمة والتشريعات والقوانين التي تكون حائلا بينها وبين حقها في التعليم، كرفض النظام التحاق الفتاة ببعثات تعليمية خارجية لعدم وجود «المحرم» لديها، أو تعثر «توافره» في الوقت المحدد للابتعاث.
وفي مقاربة بين الوقت الحالي وبقية النقاط التي ذكرها الكاتب عبدالله إدريس قبل أكثر من خمسين عاما حول حق المرأة في اختيار شريك حياتها، فالواقع يؤكد أن الأسر باتت أكثر وعيا في مسائل الزواج عن ذي قبل، بالرغم من النسب المرتفعة في الطلاق، (40-45% من عقود الزواج تنتهي بطلاق حسب إحصاءات وزارة العدل لعام 2017). لم تعدّ الأسر ترغم بناتها على الزواج، ولكن الاختيار العشوائي وقلة الوعي بقيمة تأسيس أسرة واختيار شريك حياة مناسب وقاعدة «زوجوه يعقل» مع عدة عوامل أخرى تحتاج الدراسة والبحث الاجتماعي والعلمي الدقيق، أدت إلى ارتفاع هذا العدد من حالات الطلاق التي ليست بالضرورة أن تصنف على أنها ظاهرة سلبية بقدر ما هي ظاهرة تصحيحية ملحة لتعديل خلل ما، وحل ناجع لمشاكل زوجية وأسرية قائمة. وقد تكون ظاهرة ارتفاع المهور وتكاليف الزواج المبالغ فيها والمظاهر الاجتماعية التي يحرص على إبرازها وإرضاء الناس فيها على حساب الزوجين الناشئين ما زالت كما هي منذ ذكرها الكاتب قبل نصف قرن حتى الآن مع فارق في الحداثة والمبالغة. وقد يغيب على الأسر أنه في الوقت الحالي لم يعد تأسيس الأسرة يعتمد ماليا فقط على الرجل، بل أصبح -في الغالب- شريكان في هذا الأمر، وإرهاق أحدهما بمبالغ كبيرة في المهر سيؤثر على بقية حياتهما واستقرارهما المادي والنفسي والاجتماعي. والفرصة الآن مواتية للجيل الشاب من الفتيات والفتيان برفض تلك الممارسات الاجتماعية القديمة المبالغة في المهر وحفل الزفاف، وقبلها رفض الطرق البدائية لاختيار شريك الحياة والحرص على تأسيس مستقبل سليم اجتماعيا وعاطفيا ونفسيا وفكريا مع شريك مناسب.
أشار الكاتب عبدالله إدريس -رحمه الله- قبل نصف قرن إلى أن من الرجولة أن تمنح المرأة حقها في التعبير عن رأيها، وتمنى أن تزول مظاهر القمع والاحتقار مع تقدم الوعي والتثقيف الاجتماعي. ونرى الآن -ولله الحمد- الفرق واضحا في أن ما كان يطلب كمنّة رجولية صار حقا لا جدال فيه، فها هي المرأة تبدي رأيها وتنشر قولها وتنافس بعلمها وعملها وتتدرج في المناصب وتمسك دفة القيادة في كثير من الجهات الخاصة والحكومية باقتدار.
هذا الواقع المختلف بعد خمسين عاما من الدعوة لحقوق المرأة، الواقع المتقدم للأفضل في أغلب جوانبه هل يعني أنه يكفي؟ بالطبع لا، فالمرأة ما زالت بحاجة كثير وأهمها وعيها بحقوقها. هذا الوعي لا ينبغي يفرط فيه لجهلها أو كما ذكر الكاتب عبدالله إدريس أن يصاب بحالة من «الرعونة الفكرية»، فيطالب به بتفريط من خلال أصوات تسيء إلى مطالب المرأة وأولوياتها، وتؤخر التقدم المنشود في بقية الجوانب، وتزيد من الممانعة المجتمعية لمنح المرأة كثيرا من حقوقها لدى فئات مستضعفة وغير قادرة على أخذ ما يحق لها من أبسط احتياجات الحياة.
لا يزال حق حماية المرأة من الإيذاء النفسي والمعنوي والجسدي بقوانين واضحة ومطبقة ونافذة على الحياة الاجتماعية القائمة على الرعوية الأبوية، أمرا ملحا سيُحل معه كثير من الإشكالات، وما زالت المرأة بحاجة إلى سن تشريعات وقوانين تحميها في بيئة العمل، وأن تتبنى الجهات المختلفة سياسات تساند المرأة حتى تستطيع أن توائم بين مسؤولياتها الأسرية والاجتماعية وبين واجباتها العلمية والعملية، وأن تراجع وتعدل الأنظمة والتشريعات التي تقيد المرأة اجتماعيا وعمليا، وتتاح لها فرص أكثر في سوق العمل يسبقها برامج تأهيل وتدريب نوعية تساعدها على خوض هذه المجالات باقتدار. وقبل هذا كله أن يعي المجتمع أن المرأة ليست عيبا أو عارا أو حالة يجب مواراتها عن سياق الحياة الطبيعي، وأن يعلم شقيقها الرجل أن من أهم حقوق المرأة في مجتمعه وأسرته يخرج بوعي صادق عن تصنيفها أو تنميطها أو تحجيمها بمكان أو زمان أو مقدرة أو مقاييس شكلية أو جسدية أو مناطقية. الوعي والتثقيف الاجتماعي -كما ذكر المرحوم عبدالله إدريس- لم يعد وحده أملنا في تغيير واقع المرأة للأفضل، بل يصاحبه الآن الثقة بقيادتنا الواعية التي تقود وعي المجتمع أيضا لمساحات أرحب من الانطلاق والتقدم.