الأمير الشاعر خالد الفيصل كتب قصيدة بالغة العذوبة والجمال، كل بيت فيها يعادل 7 سنوات من رحلة كفاح البحّار الذي جاب الدنيا، حاملا راية وطنه في أحلك الظروف وأشدها خطورة ودقة

ذلك البحّار البارع كيف شارف على الثمانين وما زال البحر يلهث خلفه مقطوع الأنفاس، والموج يتطاول له فيعود بقبضة من السحاب دون أن يبلغ هامته الشامخة، ثم يتكئ باسما على شواطئ الأحلام الفضية، يروي للأجيال المتعطشة فصلا من روايته الفاتنة، الملهمة، العميقة، على هيئة قصيدة بالغة العذوبة والجمال. كل بيت فيها يعادل 7 سنوات من رحلة كفاح البحّار الذي جاب الدنيا، حاملا راية وطنه في أحلك الظروف وأشدها خطورة ودقة.
منظومة القيم التي انتثرت كعقد من اللؤلؤ في تلك القصيدة الاستثنائية، تجعلنا نتوقف عندها طويلا وكثيرا.
هي هدية ثمينة من رمز سعودي مهيب إلى جيل أحوج ما يكون إلى قدوة جليلة، ورمز حيّ. يعيد إليه توازنه وثقته في نفسه، ويحيي في أعماقه القيم الكبرى التي يحتاجها لعمارة الأرض، كما يريد الله سبحانه ويرضى.
يقول الأمير الشاعر الإنسان خالد الفيصل في قصيدة يامرحبا بك:
يامرحبا بك يا ثمانين عمري
لو ماهقيت إني أشوفك وأنا حي
في هذا البيت تظهر هنا القيمة الأولى، وهي قيمة استشعار النعمة والامتنان لله سبحانه وتعالى، على توالي العطايا. وذلك أدعى لدوامها. قال تعالى في سورة إبراهيم: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ» وقوله تعالى في سورة الضحى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ».
القيمة الثانية في القصيدة، هي قيمة تشخيص الواقع، والتعامل مع الوضع الراهن دون جنوح إلى المكابرة أو الخيال. ويظهر ذلك في البيت الثاني من القصيدة:
تناسلت شعرات الأيام تجري
وابيضت السودا على ضامي الري
فهذا الوصف يذكرنا ببوح نبي الله زكريا عليه السلام، وهو يحكي حقيقة واقعه لربه سبحانه في سورة مريم «قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا».
أما البيت الثالث، فقد ظهرت فيه قيمة الزهد في الدنيا، عندما أصبحت لا تعني له شيئا. وهو من هو. فما بالك بمن هم دونه.
الشمس تمضي وأنجم الليل تسري
وكل شي صار بعيني شوي
فيتداعى إلى الذهن قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: ما لي وللدنيا؟، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها«. رواه الترمذي.
لكن ذلك لا يعني أن نتخلى عن دورنا في عمارة الأرض، وطلب المعالي في كل شأن، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
وتظهر هذه القيمة في البيت الرابع من القصيدة:
أبحث عن اللي يرفع الراس وأشري
ما أشغلت نفسي بالملذات والغي
وهنا يظهر الارتباط الوثيق بين هذا البيت والبيت السابق، وهو الارتباط نفسه بين الزهد في ملذات الدنيا والترفع عن غيّها، وبين طلب العلا ورفع درجة الإتقان إلى أعلى مستويات الكمال البشري.
أما قيمة استغلال الوقت التي تعد من أكبر معضلات هذا الجيل، فقد ظهرت في البيت التالي مباشرة:
أشغلت وقتي واستفزيت عصري
أصحي الغفوات بالشمس والفي
ولعمري أن استفزاز العصر لا يكون إلا باستثمار الأوقات والمثابرة والكفاح.
قال تعالى في سورة العصر:
«وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ».
ولأن التواضع لا يتعارض مع الاعتزاز بالنفس، والتسامح لا يعني التنازل عن الثوابت والقيم، فقد قال سمو الأمير:
أغضي ولكن ما تناقصت قدري
وأسمح ولكن ما تنازلت عن شي
وتلك هي سادس القيم في سادس الأبيات.
القيمة السابعة، أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، ولذا وجب تعليم الأطفال مكارم الأخلاق منذ نعومة الأظفار، وهو الأمر الذي حدث مع سمو الأمير حين شرب مبادئ الرجولة والفروسية مع لبن الطفولة:
رمت المراجل طفل لكني أدري
إني أبطوي كل عسراتها طي
كما تظهر قيمة الثقة المتناهية بالنفس، وهي أحد أسرار النجاح الكبرى.
قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام في سورة يوسف:
«قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى? خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ».
أما مدرسته التي درس فيها علم الفكر والعز، فقد كانت مدرسة الملك عبدالعزيز وأبنائه البررة، وكفى بها مدرسة. وهنا تظهر قيمة الأسر العظيمة في صنع العظماء، وأهمية مرحلة الطفولة..قال تعالى في سورة الإسراء:
»وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا».
القيمة التاسعة، هي فن التعالي على الآلام، بالاستعانة بالأدوات والقدرات والملكات والمواهب، وذكر منها الأمير نفاذ البصيرة التي تتحول إلى قوة العزم في قوله:
واليوم لو ثقلت بي الرجل بصري
لي عزم أمشي به على كل مافي
ويختم القصيدة ببيتين غارقين في العذوبة. هما تلخيص وجداني رقيق لجميع ما سبق:
أماوج المعنى على بحر شعري
وألوي قوافيها على شراعها لي
هي سلوتي بالعمر لاضاق صدري
أداوي جروحي قبل حامي الكي