من المهم وضع إستراتيجية لصناعة الثقافة السعودية تقوم على شراكات جديدة بين أقوى جهات القطاع العام والخاص والثالث، ليتم تأسيس فعلي لمشروع صناعة الثقافة السعودية

يعود استخدام مصطلح «صناعة الثقافة» إلى الأربعينيات من القرن الماضي، ويدل على الصناعة التي تجسّد أو تنقل أشكالا من التعبير الثقافي بصرف النظر عن قيمتها التجارية، وقد طرحت (اليونيسكو) هذا المفهوم عام 1982 للإشارة إلى السلع الثقافية التي تمرّ عبر خطوط تجارية لإنتاجها أو إعادة إنتاجها وتوزيعها وتخزينها وفق اعتبارات اقتصادية متعلقة بالتنمية الثقافية، ومعنى ذلك أن صناعة الثقافة تتضمن عملية «التأليف والنشر»، و«صناعة السينما» و«الإنتاج الموسيقي» و«الفنون التشكيلية»، وكذلك «الفنون الأدائية والاستعراضية»، لكنها أيضا تتضمن مجالات أخرى وفق المفهوم الشامل الذي حدده (إدوارد تايلور) للثقافة بأنها «ذلك المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع»، وذلك يعني أن مجال صناعة الثقافة يتوسع ليشمل المجالات المرتبطة بالتراث المادي وغير المادي كالفنون المعمارية، والحرف اليدوية والفنية، والتصاميم والفنون الشعبية، وغير ذلك من المجالات الإبداعية التراثية.  وهكذا يتبين أن الثقافة السعودية ثرية جدا في دوائرها الثقافية المحلية على اتساع وتباعد المناطق شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ووسطا، فعلى سبيل المثال تم إدراج فن «القَطّ» العسيري ضمن القائمة التمثيلية للتراث غير المادي لدى منظمة اليونيسكو، مما يعني أن لدينا قوة ناعمة في كل جوانب تراثنا السعودي.
وتعدّ صناعة الثقافة اليوم من أقوى الأنشطة التجارية في العالم، إذ تشير التقارير الدولية إلى أنها بلغت قبل عدة سنوات ‎‎ 7 من إجمالي الناتج العالمي، وربما ارتفعت اليوم إلى أكثر من 10%، وتدخل الثقافة في التأثير بالناتج المحلي للدول، ففي بريطانيا مثلا بلغ الثقافي ‎ ‎7 من نسبة الناتج المحلي البريطاني، وتنفق الأسر الأوروبية أكثر من 9% من دخلها على المنتجات والأنشطة الثقافية والفنية، ومن ذلك شراء المؤلفات والأعمال التشكيلية والموسيقية والسينمائية وغيرها، كما يعتبر ارتياد المسارح والمتاحف وقاعات الموسيقى والسينما والفنون والمكتبات ونوادي القراءة من الأنشطة التي ما زالت تستهوي الأفراد والأسر في أوروبا.
وهذا يوحي بأن إيجاد صناعة ثقافية في المملكة مطلب ملحّ لكي يتم التخلص من «الاستهلاك» والتحول إلى «الإنتاج» المعرفي المتمثل في صناعة الثقافة. غير أن دعم الصناعات الثقافية وتنميتها في المملكة يعدّ مرحلة تأسيسية أوليّة تسبق إيجاد الأسواق ومنافذ البيع على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، فالمهرجانات والكرنفالات والمحافل الثقافية والمعارض المتخصصة وقاعات الفنون والمتاحف تعدّ أسواقا ومنافذ للصناعات الثقافية، لكنها في الوقت ذاته بيئة خصبة لعقد الشراكات وتوقيع الاتفاقيات.
صحيح أن الوظيفة الجوهرية للثقافة هي تكوين الإنسان فكريا ونفسيا، إلا أن لها وظائف اجتماعية واقتصادية تبرز نتيجة
لوعي الدول والمجتمعات بها، إلا أن ضخامة مشروع صناعة الثقافة من ناحية رأس المال والتجهيزات والكوادر البشرية وتنوع وحجم المعارف المطلوبة ونوعية المواهب، يتجاوز قدرة الأفراد على صناعة الثقافة وإدارتها إنتاج لما تتطلبه من موارد مالية ضخمة يجعل مشروع صناعة الثقافة يشبه مشروع صناعة الآلات الثقيلة.
ولذلك من المهم وضع إستراتيجية لصناعة الثقافة السعودية تقوم على شراكات جديدة بين أقوى جهات القطاع العام (وزارة الثقافة، وزارة التعليم، الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، هيئة الثقافة)، وكذلك جهات القطاع الخاص (الشركات والمؤسسات)، وأيضا جهات القطاع الثالث (مؤسسات المجتمع المدني)، ليتم تأسيس فعلي لمشروع صناعة الثقافة السعودية، خاصة أن المقومات الأساسية موجودة ومنها البنية الفكرية والمؤسسية والاقتصادية اللازمة.
إن رؤية المملكة 2030 تتضمن دعما لصناعة الثقافة، فهي الخط الإستراتيجي ليكون المجتمع السعودي مجتمعا معرفيا قادرا على إنتاج المعرفة وصناعة الثقافة، على أساس أن الثقافة من مقومات «جودة الحياة»، وأن سعادة المواطن والمقيم تأتي على رأس الأولويات، ولذلك تم إطلاق برنامج «جودة الحياة 2020»، كما تم تدشين عدة مشاريع ثقافية ضخمة منها مشروع القديّة والمجمع الملكي للفنون ودار الأوبرا السعودية وغيرها من المشاريع.
كما تضمنت الرؤية دعما ضمنيا لصناعة الثقافة عبر استهداف زيادة إنفاق الأسر على الثقافة داخل المملكة من 2.9% إلى 6% بحلول عام 2030، ودعم جهود المناطق والمحافظات، والقطاعين غير الربحي والخاص، في إقامة المهرجانات والفعاليات، وتفعيل دور الصناديق الحكومية في الإسهام بتأسيس وتطوير المراكز الترفيهية، وتشجيع المستثمرين من الداخل والخارج على الاستثمار الثقافي، وعقد الشراكات العالمية، وتخصيص الأراضي المناسبة لإقامة المشروعات الثقافية من مكتبات ومتاحف وفنون وغيرها، ودعم الموهوبين من الكتّاب والمؤلفين والمخرجين، ودعم إيجاد خيارات ثقافية وترفيهية متنوعة تناسب الأذواق والفئات كافة، وزيادة الأنشطة الثقافية وتنويعها للإسهام في استثمار مواهب المواطنين، وتطوير الأنظمة واللوائح بما يساعد على التوسع في إنشاء أندية الهواة والأندية الثقافية والاجتماعية وتسجيلها رسميا، وإطلاق البرنامج الوطني «داعم» الذي سيعمل على تحسين جودة الأنشطة الثقافية ويوفر الدعم المالي لها. كما أكدت الرؤية على أن دعم هذه المشروعات لن يقتصر على الجانب الثقافي، بل سيكون له دور اقتصادي مهم في توفير فرص العمل.
وعلى ضوء ما ذكرناه آنفا، فإن قيام صناعة ثقافية سعودية تتوافق مع رؤية المملكة 2030 يتطلب خطة شاملة تبدأ بتحديد الموارد الثقافية، فالصناعات الثقافية لها أبعادها الإستراتيجية المتمثلة في كونها قوة ناعمة، وفي قدرتها على تحويل النشاط الثقافي إلى نشاط اقتصادي مكتمل الأركان.. وهذا ما نتمناه مستقبلا.