لا توجد علاقة سببية بين التفكير الناقد والفلسفة، فالتفكير الناقد شيء والفلسفة شيء آخر مختلف، الفلسفة لا ينتج عنها تسامح بالضرورة، ولا تؤدي إلى الانفتاح الفكري على كل حال

في عصر العولمة ومع تقدم وسائل التواصل وتقلص المسافات بين الأمم والأعراق حتى صار العالم يعيش في قرية صغيرة، حتمت على البشر التقارب، وأجبرتهم على التعرف على ثقافات بعضهم البعض، وهذا ما جعل تسليط الضوء على مسألة الانغلاق الفكري خطوة ضرورية لكل أمة ترغب في الانفتاح على الآخر، وتبادل الخبرات والأفكار والمصالح الاقتصادية والسياسية معه.
يعتقد كثيرون أن مجال التعليم وفي أحضان المدرسة تحديدا، يكسب الطالب أول بذور الانفتاح الفكري والتسامح مع الآخر، لذلك قررت وزارة التعليم اعتماد مقرر (مهارات التفكير الناقد والفلسفة)، ونفهم من عنوان الكتاب أن التفكير الناقد والفلسفة مكملان لبعضهما البعض، وأن التفكير الناقد نتيجة للتفلسف، أو أن التفلسف نتيجة للتفكير الناقد، مما يعني أن من أهداف هذا المقرر هو مقاومة الفكر المنغلق والعقلية المتصلبة.
أولا: لا توجد علاقة سببية بين التفكير الناقد والفلسفة، فالتفكير الناقد شيء والفلسفة شيء آخر مختلف، الفلسفة لا ينتج عنها تسامح بالضرورة، ولا تؤدي إلى الانفتاح الفكري على كل حال، فكثير من الفلسفات حول العالم تحولت إلى دوغما بعد أن تحولت إلى منظومة متكاملة من القيم والمعتقدات والعادات التي نسميها (ثقافة)، وأصبح معتنقها على أهبة الاستعداد لخوض حرب مقدسة، والتضحية بالنفس في سبيلها، ولعلنا لا ننسى تاريخ الماركسية التي لا تتجاوز كونها فلسفة، وذهب ضحية هذه الفلسفة آلاف القتلى والأسرى والمنفين بسبب عمليات ثأرية وصلت حد ارتكاب أفعال دموية وحشية ضد المخالفين من أدباء وصحفيين وسياسيين وشعوب دول مجاورة، وأصبح التعصب لهذه الفلسفة نفس قوة التعصب الديني أو التعصب القبلي والعرقي.
ولعلنا نعرج قليلا ناحية الليبرالية التي لم تكن في أصلها سوى فلسفة بسيطة، أدى ارتباطها بالسياسة ليجعل منها أيديولوجيا لا تقبل الآخر، وأجمل ما قيل في هذا الشأن ما كتبه غازي القصيبي في كتابه (أميركا والسعودية) في فصل (وما أدراك ما حرية الصحافة) حين قال: «لكي نعرف كيف يتصرف الإعلام الغربي يجب أن نعرف مكوناته الفكرية والنفسية والتاريخية، بدون تجنٍّ على الحقيقة، وربما دون استثناءات، يمكن القول إن الإعلاميين الغربيين يؤمنون إيمانا مطلقا بالنظرية الليبرالية الديمقراطية التي تحولت في الغرب إلى دين جديد، وتحول الإعلاميون إلى سدنة وكهنة يدافعون عنها بشراسة، كما يدافع أي أصولي متدين عن معتقده. وهذا يعني، باختصار شديد، أن نظرة الإعلاميين الغربيين إلى المجتمعات التي لا تسود فيها الليبرالية الديمقراطية تتراوح بين العداء العابر والكراهية العميقة».
فالإعلام الغربي ومع كل التقدم التقني والتحضر الذي نعيشه لكنه لم يتحرر من رد الفعل البدائي، وهو التوجس والعداء تجاه من يعتبره مختلفا، وينظر إليه على أنه خطر يتهدد أمنه وسلامته، وهذا الخوف البدائي تجاه الآخر المختلف لمسناه واقعا في السينما الغربية والصحافة، وهو ما يجعلهم يتدخلون بشكل سافر في شؤون الدول الداخلية، وصار يربطهم بمن يحمل نفس أفكارهم من الخارج رابطة أقرب لرابطة الدم.
يضيف غازي القصيبي في نفس المصدر قائلا: «على العرب، إذن أن يتعاملوا مع الإعلام الغربي بلا أوهام أو أفكار ساذجة مفرطة في التفاؤل. لا يمكن لصحيفة غربية أن تغير موقفها من الحجاب ولو أقسمت أمامها ألف امرأة مسلمة أنهن تحجبن طوعا واختيارا. ولا يمكن لصحفي غربي ولو ناقشه ألف فقيه مسلم أن يعتبر ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف جلدة عقوبة عادلة. ولا توجد حجة تقنع الصحفي الغربي أن الظروف الموضوعية غير مناسبة للديمقراطية. باختصار شديد، لا يمكن أن تغير الصحفي الغربي عقائده الليبرالية إلا إذا غير المسلم المتدين عقيدته الدينية».
فما ذكرناه سابقا يؤكد أن ظاهرة الانغلاق الفكري ليس حكرا على ثقافة دون أخرى، واعتناق الفلسفة قد ينتج عنه تطرف فكري لا يقل خطورة عن التطرف الديني، فتتحول إلى دوغمائية مغلقة تتسم بعدم القدرة على تقبل أية معتقدات تختلف عن معتقدات الشخص أو الجماعة، وتجبر معتنقها على الميل السريع لرفض أي دليل أو مناقشات تتعارض مع معتقداته، وهذا يجعلنا نعيد النظر في مسألة ربط التفكير الناقد بالفلسفة.