إن مطلق الحاجة لا يؤثر في ثبوت حكم الرضاع في الكبير، وأنه لا بد أن تكون حاجة خاصة نمشي فيها على كل ما حصل في قضية سالم مولى أبي حذيفة.

بين الآونة والأخرى يتحدث بعض الناس عن مسألة تأثير رضاع الكبير، ومعلوم أن جماهير أهل العلم يرون عدم تأثير رضاع الكبير، لكون الرضاع له وقت، كما في قوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن)، والكبير تجاوز الوقت المحدد للرضاع، ولحديث (لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرِّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَام).
وبعض العلماء يرى تأثير رضاع الكبير مستدلا بحديث سالم مولى أبي حذيفة الوارد في صحيح مسلم، وفيه قول زوجة حذيفة للنبي -عليه الصلاة والسلام- إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال، وإنه يدخل علينا، فقال لها: (أرضعيه تحرمي عليه).
وعند التأمل، فإن رضاع الكبير لا يعتد به، ولا تأثير له، ولا يصح الاستدلال بحديث سالم مولى أبي حذيفة ولا القياس عليه، لأنه لا وجود لمتبنَّى في عصرنا مثل حال سالم، لكون الشرع أبطل التبني، وبالتالي فإيراد مسألة تأثير رضاع الكبير غير وارد.
يقول شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ما نصه: ظاهر قوله: (أرضعنكم) يعني في وقت الرضاع، أما قصة سالم مولى أبي حذيفة، فالجواب عنها، بأحد ثلاثة أوجه، فإما أنها منسوخة، أو خاصة به عينا، أو خاصة به نوعا.
أما القول بأنها منسوخة، فهذا ليس بشيء، لأن الأصل عدم النسخ، ولا بد من إثبات التاريخ، وتعذر الجمع.
وأما القول بأنها خاصة به عينا، فضعيف أيضا، لأن الله -عز وجل- لا يمكن أن يخص أحدا بحكم إلا لمعنى فيه، حتى النبي -عليه الصلاة والسلام- ما خص به من الأحكام إلا لأنه نبي، لا لأنه محمد بن عبدالله، فلا بد من علة يتغير بها الحكم، ويخصص به من اتصف بها، فما هو المعنى الذي يخص به سالم حتى نقول: إن الحكم لا يتعداه، وإنه خاص به؟ لأننا إذا قلنا: إن الحكم لا يتعداه، وإنه خاص به، صار معناه: أنه حكم له بذلك، لأنه سالم مولى أبي حذيفة، وهذا لا معنى له، وعلى هذا فيضعف هذا القول أيضا. بقي الوجه الثالث: وهو أنه خاص به نوعا، فإذا وجد حال مثل حال سالم ثبت الحكم، وهذا لا يمكن أن يكون الآن، لأن ابن التبني قد بطل شرعا، وعلى هذا فلا يرد علينا أبدا، ما دمنا قررنا أنه لا أحد يخصص عينا بحكم من شريعة الله، ولا بد أن يكون هناك معنى يتعدى إلى نوعه، وهذا لا يمكن.
لكن شيخ الإسلام -رحمه الله- له في هذه المسألة قولان:
القول الأول: يوافق ما قلت: من أنه لا بد من مراعاة التبني.
والقول الثاني: يعتبر الحاجة، وأنه متى ما احتيج إلى إرضاع الكبير، رضع، ويثبت حكم الرضاع، ولكن قوله هذا ضعيف، كقول الذين يرون رضاع الكبير، وقد قلنا: إن هذا القول ضعيف، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والدخول على النساء! فقالوا: يا رسول الله: أرأيت الحمو؟ -والحمو أخو الزوج أو عمه أو خاله وما أشبه ذلك- قال: الحمو الموت». رواه البخاري.
ومعلوم أن الحمو يحتاج إلى الدخول إلى بيت أخيه، لا سيما إذا كانوا في بيت واحد، فلو كان إرضاع الكبير مؤثرا لقال: الحمو: ترضعه زوجة قريبه، ليزول الحرج، فلما لم يقل ذلك، علم أن مطلق الحاجة لا يؤثر في ثبوت حكم الرضاع في الكبير، وأنه لا بد أن تكون حاجة خاصة نمشي فيها على كل ما حصل في قضية سالم مولى أبي حذيفة.
وإذا اعتبرنا ذلك صارت هذه الحالة الآن غير موجودة، وبهذا تسلم الأدلة من التعارض، ويحصل الجمع بينها.