صلى بجواري شخص في أحد المساجد وحين فرغت بادرني بالسلام ثم قال: صلاتك غير صحيحة، أعد الصلاة وفقك الله! قلت لماذا؟ قال لأنك قمت لإكمال الركعة الفائتة قبل أن ينهي الإمام التسليم. قلت لعلك تقصد أنني قمت بعد تسليمة الإمام الأولى ولم أنتظر الثانية؟ قال نعم. قلت ألا تعلم أن في المسألة خلاف وأنه يحق للمأموم الانصراف بعد تسليمة الإمام الأولى؟ قال وتجادل بعد؟ عموما نصحتك والأمر إليك، بينك وبين ربك. تركته وإذا به يجلس على كرسي وأمامه طاولة معدة لمحاضرة أو درس ما في نفس المسجد. سألت، فعلمت أنه أكاديمي يلقي دروسا فقهية أسبوعية في ذلك المسجد.
هذا مثال واضح لنوع من أنواع التشدد الذي يزاوله بعض المنتسبين للفقه في مجتمعنا، وفي مسألة يسيرة كهذه فضلا عن غيرها مما هي أكثر شيوعا واهتماما. تُصاب فعلاً بالذهول حين يتولى شخص أحقية الحكم ببطلان صلاتك لأنه يرى هذا دون مراعاة لسماحة الدين ورحابة الشريعة التي اتسعت لخلافات فقهية معتبرة. وللفائدة فإن الجمهور من الصحابة والتابعين والمذاهب-عدا الحنبلي- يرون التسليمة الأولى هي الركن في الصلاة وأن الثانية سنة للأحاديث الواردة، ومنها «.. تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» ولم يقل التسليمتان، والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم التسليم، وبهذا نرى عين التضييق الذي يريد أن يحمل كل الناس على رأي واحد-مرجوح- بينما الأمر رحيب جدا.
وإذا كان هذا الرجل، على مكانته الفقهية، يمارس الرأي الأوحد قامعا غيره، مانعا حق النقاش لاعتقاده أن الحقيقة ملكه لوحده، علمنا كيف هي مخرجات بعض التخصصات الإسلامية وبعض الحلقات الدراسية العامة في المساجد.
قد يرى البعض أن هذه مسألة يسيرة لا تستحق الإثارة إلا أن الإثارة هنا ليست في جزئية التسليمة الأولى أو الثانية في الصلاة بل في التضييق على الناس وحملهم على رأي فقهي واحد. إن النظرة الضيقة للأحكام تفضي للتشدد والتشدد يفضي للتطرف والتطرف باب رحراح للإرهاب. لم ينشأ الإرهاب إلا من تلك النظرة الضيقة التي تعتقد أن الرأي واحد في كل المسائل الفقهية، وهذا الرأي الأوحد حق لا يملكه إلا الشيخ الفلاني، فرأيه هو دين الله، وفتواه نص مقدس.
إن أولى الأولويات على عاتق المهتمين بمسألة إحلال الاعتدال والوسطية في المجتمع، سواء جهات علمية أو مؤسسات مدنية ودعاة ومسؤولين، هو حمل الناس على قبول التعددية في الرأي وحماية حق الاختلاف لكونهما شرطين جوهريين في قضية الاعتدال الذي هو مشروع الدولة السعودية الجديدة.
مشروع بلدنا في الاعتدال يواجه حربا ضروسا من جانب خصوم الاعتدال لتشويه مفهومه في كل مناسبة، بدعوى غاشمة مفادها أن الاعتدال هو مشروع لتمييع الدين وفرض الانحلال على المجتمع. وهذا من التجني واغتصاب الحق لمعنى الاعتدال السامي الذي جاءت به النصوص الشرعية والمفاهيم العقلية منذ خلق الله الأرض ومن عليها.
وفي هذا يقول الملك سلمان حفظه الله: «لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالا ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال».
لا شك أن الاعتدال يعيش غربة غريبة أستطيع أن أسميها «غربة الاعتدال» تستوطن حياتنا كمجتمع محلي، على وجه الخصوص، ومجتمع عربي على وجه العموم. غربة الاعتدال هي نتاج التشدد الطارئ على دين الإسلام بعد مشروع الصحوة الذي مكث أربعة عقود. غربة الاعتدال تستوعب أنماطا عديدة منها المذهبية والمناطقية والقبلية والجهوية وحتى الجنسية القومية لا سيما العربية.
فطوبى ثم طوبى ثم طوبى لغرباء الاعتدال..