أن تقوم جامعة ما برد رسالة علمية لضعف الكفاءة البحثية فيها أمر صحي يؤكد على قوة الجامعة ورضوخ الرسائل العلمية فيها للميزان العلمي والمنهجي، وليس للمجاملة أو لأي اعتبار آخر، وكذلك أن تقوم جامعة رمز للعلوم الدينية برد رسالة جامعية لمنافاتها أصول الدين ومبادئه وقطعيات الكتاب والسنة ومصادر تلقي الأمة، فهذا أمر مُشَرِّف أيضا، لكنّ رد رسالة في تفسير القرآن لأن الباحث سار على منهج السلف في فهم الآيات المتضمنة لأسماء الله وصفاته، فيثبت ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ويصف مذهب الأشاعرة في تأويل صفات الله تعالى بأنه مذهب كلامي مخترع لم يعرفه الصحابة ولا تابعوهم، فهذا نوع من أنواع العدوان والتعصب والانحراف عن المنهج العلمي، ونُكُوص إلى ما عهدناه في التاريخ الإسلامي من التعصب البدعي الذي أدى إلى كل ما غرقت به الأمة الإسلامية من انحدار علمي وجنوح إلى الخرافة التي أحرقت الأمة في أتون الجهل والغباوة قرونا متعاقبة، أدت في النهاية إلى احتلال معظم بلاد المسلمين ورزوحها عقودا تحت حكم المحتل، بينما هي تشغل نفسها بالأضرحة والحضرات والدروشة والمناقشات الكلامية العقيمة، حتى قيض الله الدعوة السلفية التي انتشرت في أرجاء الأمة، وأوقدت أعظم شعلات النور والتجديد، وأعتقت العباد من خرافات أهل البدع، ونهضت بعقولهم أمام سجال العالمين، وذلك بعد أن اجتمع عليهم التصوف وعلم الكلام، فأما علم الكلام فجعلهم أسرى للبحث في عالم الغيب الذي نهاهم الله عن تتبعه، والذي شغلهم عن عالم الشهادة الذي أمرهم الله بالتفكر فيه، فعملوا بما نهى الله عنه وتركوا ما أمر الله تعالى به، وأما التصوف فجعلهم أسرى لأصحاب القبور يخافونهم ويرجون ثوابهم ويتطلبون شفاعتهم وينتحلون لهم من الأوصاف والقدرات ما ليست إلا لله تعالى، ثم جعلهم كل ذلك أذلة لشيوخهم منحدرين في غيابة ظلمات القلوب وتعطيل الأذهان. وطيلة تلك القرون التي سادت فيها بدعهم وتلاقحت وباضت وأفرخت لم يكونوا يجدون ما يَرُدُّون به حجج الهادين إلى سواء السبيل، من دعاة العودة إلى الكتاب والسنة سوى الاضطهاد والقمع.
بدأ ذلك العدوان منذ ما عُرف بالمحنة التي نالت علماء أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل الثالث، وعلى رأسهم إمام أهل السنة والجماعة أبوعبدالله أحمد بن حنبل الشيباني، رحمه الله ورضي عنه، فقد كان من أعاظم رجالات الإسلام علما وعملا وقياما بأمر الدين، من نشر لأصوله، عقيدة وفقها، والجهاد في سبيل الله تعالى في أرض الرباط، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف في مواجهة حركات الابتداع في الدين غير هياب ولا وجل، حين وقف في وجه بدعة المعتزلة حاملي لواء عقلانيتهم المزعومة التي انهارت أمام الحجج الدوامغ من الكتاب والسنة والعقل الصريح، فلم يجدوا ما يواجهون به الدليل، إلى أن رفعوا في وجه علماء الإسلام النطع والسيف، فصانعهم العلماء درءا عن أنفسهم، إلا أن إمام أهل السنة في زمانه أبى المصانعة في العبث بدلالات الوحي، ووقف في وجه الخلفاء الثلاثة: المأمون والمعتصم والواثق، حتى أعز الله به السنة وأحياها وقمع البدعة وأرداها في عهد الخليفة المتوكل -رحمه الله- وعلى يديه. ولم تزل مواقفه في إحياء السنة وإظهار شعائر الدين معلومة ظاهرة للقاصي والداني والأمير والمأمور، بالرغم مما لقيه من النكال والحبس حتى توفاه الله تعالى سنة 241 للهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، زمن خلافة المتوكل على الله بن الواثق العباسي.
وبعد وفاته -رحمه الله- عُرِف أصحابه بأنهم أعظم أصحاب الأئمة عناية بعلم إمامهم وجمعا لأقواله وفتاواه في الفقه والاعتقاد، حتى عَدَّ المرداوي -رحمه الله- في كتابه الإنصاف في معرفة الراجح من مسائل الخلاف من جمعوا مسائله في الفقه والاعتقاد، فجاوزوا المئة والثلاثين شيخا سوى من لم تبلغنا مسائلهم، أما مسائله في الرواة والحديث فحدث ولا حرج.
وظل التأويل في صفات الله تعالى أمرا منكرا عند المسلمين، علمائهم وعامتهم لقرب العهد بالفهم الصحيح للغة العرب، وتأثرا بقوة الإمام أحمد -رحمه الله- في إنكاره، حتى أواسط القرن الرابع حين بدأت بدعة أبي الحسن الأشعري في الظهور، وبدأ تسويقها على الناس على أنها هي مذهب أهل السنة و الجماعة، فكان أصحاب أحمد -رحمهم الله- بمثابة الحصن المنيع في وجه انطلاء هذه الخديعة على الناس، وكان لهم في ذلك شوكة وهيبة بلغ منها أن أبا محمد البربهاري، كبير الحنابلة في وقته، إذا سار امتلأت الأسواق بأصحابه، وكان معظّما عند الخليفة لقوته في القيام بالدين، ولسلامة منهجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولزوم الجماعة، إلى أن نجح المغرضون في إيغار صدر الخليفة الراضي عليه واتهامه بالانحراف العقدي ظلما وكذبا، كعادة أهل البدع في الاستعداء السياسي عند فراغ اليدين من الدليل، فمات -رحمه الله- متخفيا بعد ما نال أصحابه من الأذى والنفي ونهب المنازل، كما نقل الذهبي -رحمه الله- في سير أعلام النبلاء، رحمهم الله جميعا. وكذلك كان أبوحامد الإسفراييني الذي ميز آثار الشافعي -رحمه الله- عن عقيدة الأشعري، ووقف نفسه على تحذير الناس منها ومن دعاتها، رحمه الله.
وبقي الأمر كذلك حتى قامت فتنة ابن القشيري سنة 469، وهي فتنة تدخلت فيها الدولة السلجوقية لصالح الأشاعرة وقمعت الحنابلة ومن يوافقهم على الالتزام بالكتاب والأثر من أهل الحديث والشافعية والمالكية، حيث تبنت الدولة المذهب الأشعري وفرضته في المدارس النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك من الشام إلى الصين، ولم يعد بعدها الخلاف بين الأشاعرة والحنابلة الذين كان اسمهم في ذلك الوقت عَلَماً على أتباع منهج السلف في الفقه والعقيدة حتى من غير الحنابلة، لم يعد الخلاف علميا ينتهي بظهور الدليل وقوة الحجة، بل أصبح سياسيا، فمن خالف عقيدة الأشاعرة أصبح مخالفا للدولة ويُحْرَم من الرواتب التي تُعطى للمدرسين والعلماء، ويمنع من نشر مذهبه أو التحدث به، إلى أن وصل الأمر إلى القول بتكفير من لم يقل بقول الأشعري في العقيدة، كما نص على ذلك أبو إسحق الشيرازي في مقدمته لشرح اللمع، حيث قال: «فمن اعتقد غير ما أشرنا إليه من اعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام الأشعري فهو كافر».
وسارت على نهج السلاجقة بقية الدول التي قامت في المشرق الإسلامي، ثم بعد ذلك دول المغرب من تَبنّي المذهب الأشعري واضطهاد من يخالفه وتخصيص وصف أهل الحق وأهل السنة بهم، ووصم الحنابلة بالمجسمة والحشوية، حتى بلغ الأمر بأحد علماء الأشاعرة المقربين من السلطان صلاح الدين الأيوبي، وهو الخبوشاني الأشعري: أن ينبش قبر أحد العلماء المتبعين للأثر في مسائل الصفات، وهو ابن الكيزاني المتوفى سنة 562، وهو شافعي في الفقه، بحجة أنه حشوي ولا يدفن بجوار الإمام الشافعي. ولم يتوقف الأمر عند اختصاص وصف أهل السنة بالأشاعرة وتلقيب أتباع السلف بالحشوية والمجسمة والمشبهة، بل أصبحت بدع الصوفية وخرافاتهم ومخاريقهم تنتشر بين العامة، ووقف العلماء منها ما بين منكِر صامت أو مقر متأثر بها، حتى أصبح لقب أهل السنة شاملا للمتصوفة بشتى طُرقهم دون تمييز. ولمّا وقف شيخ الإسلام بن تيمية موقفه الأشهر والأعظم في نصرة السنة وإحيائها وبثها بين العامة والخاصة، وكتابة التآليف والرسائل التي لا نظير لها في الاحتجاج للسنة وإعلاء شأنها، عجز كل علماء عصره عن رد حجته، وأوقفهم موقفا حرجا أمام العامة والسلاطين، فلم يكن منهم إلا أن كادوا له وحكموا بقتله واستحلوا دمه وتسببوا في سجنه مرات في مصر والشام، كانت أخراها السجنة التي مات فيها في قلعة دمشق سنة 728 رحمه الله. وبعده استطاع أتباع منهج السلف إظهار رأيهم فترة قصيرة من الزمن كابن القيم والذهبي، إلا أن الأمر لم يلبث أن عاد لما كان عليه، ولم يعد أحد قادرا على إظهار منهج السلف إلا لِماما وفي غضون تآليف كبيرة، وتعد رسالة المقريزي في التوحيد أنموذجا نادرا للجرأة على إظهار عقيدة السلف، وربما كان لمكانة المقريزي السياسية في الدولة المملوكية أثرها في ذلك. لم يؤد هذا الاضطهاد الفكري إلى عدم تجرؤ الحنابلة ومن وافقهم من أهل الحديث على إعلان مذهبهم وحسب، بل نتج عن ذلك تأثر بعض العلماء الحنابلة وبعض أهل الحديث ببعض البدع التي ظهرت في ثنايا كتاباتهم في الفقه، من تفويض في مسائل الصفات أو إجازة لبعض البدع العملية، كالتوسل بالصالحين، والرحلة إلى قبورهم، أو التبرك بآثارهم، وسواء أكان ذلك منهم عن قناعة أم كان لأي سبب آخر، فإنه لا يُمَثِّل أحمد بن حنبل، ولا يصح أن يكون هذا مذهبه، وذلك لأن نصوص الإمام أحمد مجموعة ومضبوطة، وكلها تنص على الالتزام بالسنة، وتشدد في التحذير من الابتداع، وأحمد -رحمه الله- كأي عالم من العلماء يَكْثُر النقل عنه، يأتي في كلامه المُشْكِل، والمشتبه، والذي قد يوهم خلاف مذهبه، أو الذي رجع عنه، ولا بُد في المنهج العلمي أن يكون المُعَوَّل عليه في حكاية مذهبه إرجاع بعض أقواله إلى بعض، وإذا كان بعضها واردا في سياق علمي أو تاريخي معين، فإن مما يُخل بمعناها نزعُها من هذا السياق الذي يصبح في أهميته كالجزء من الجملة الذي لا يتم معناها إلا به، كما لا بد من عرض ما يُشْكل من أقواله -رحمه الله- على أصوله، وليس الاعتداد بالرواية المشكلة وإن صح سندها، لأن أحوال الرواة -كما عدَّها الإمام الشافعي، رحمه الله، في كتاب الرسالة- إذا ثبتت عدالتهم قد يروون وينقلون ما يروونه بحسب أفهامهم، وقد يروون بعض الكلمة ويتركون بعضها، إما لأنهم لم يسمعوه أو لأنهم حضروا في أثناء الجواب ولم يحضروا أوله، أو أنهم حضروا أول الكلام ولم يحضروا آخره، وهذه الأسباب وغيرها تجعل من المتحتم في التحقيق العلمي حين نأخذ المسألة عن الإمام أحمد رواية ونجدها تخالف أصوله أو تخالف المعهود عنه من الفتاوى الموافقة لأصوله: أن لا نكتفي بهذه الرواية مجردة، ونعلم أن خروجها عن الأصل كائن لسبب خارج عنها.
وأصول أحمد -رحمه الله- ألف فيها بعض العلماء كتبا مختلفة في الموضوعات التي تناولوها، وأجَلُّها قدرا كتاب الإمام أبي يعلى «العدة في أصول الفقه»، والذي اجتهد فيه المصنف لاستخراج قواعد أصول الفقه من مسائل الإمام أحمد التي رواها كبار أصحابه كمهنا والأثرم وإبراهيم الحربي وحنبل، وهي أصول السلف -رضي الله عنهم- في فتاواهم والتي يمكن جمعها في كلمة «الالتزام بالاتباع والتحذير من الابتداع». وكلما ظهرت محاولة ولو متواضعة لإحياء هذا المنهج كانت تقابل بالقمع والتضييق من قِبل الدول المعاصرة لها، ومن قبل العلماء الجامدين على الخرافة أيضا، كما حصل مع دعوة البركوي وقاضي زادة ومحمد بن سليمان الروداني.
حتى تُرِك هذا المنهج من جهة العلماء ثم العامة، وأدى تراخي المسلمين في اتباعه وتضييقهم على أهله، كما قدمنا قبل قليل، إلى سيادة البدعة والخرافة، وتسلط الأمم على المسلمين حتى مطلع العصر الحديث، الذي أعاد الله تعالى فيه أصول مذهب السلف للظهور، وبقوة لم تكن لها من قبل لما يزيد على الألف عام في الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود، وفي ظل دعوة المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمهما الله، تم محاربتها، ثم أظهرها الله تعالى في هذه الدولة المباركة، على يد المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن، وأصبحت كتبها تطبع وتوزع ودعاتها ينتشرون في الآفاق، وجامعاتها تستقطب الدارسين من كل أنحاء العالم، فكان لمنهج السلف في ظلها ما لم يكن له في سالف العصور، وترتب على ذلك: اليقظة الفكرية للمسلمين، وضعف دعاة البدع، ووعي الناس بحقيقة الإسلام التي كادت البدعة تخفيها وراء دخان كثيف من الرهبانية والخرافة والشرك.
وهذا النصر العظيم الذي حققه المنهج السلفي أثار ثائرة أناس كثيرين منهم أعداء للإسلام رأوا فيه الرجوع إلى المنهج الذي كان عليه الصحابة والتابعون، والذي حقق به المسلمون مجدهم الحضاري الأول، والمتمثل في إنشاء أقوى دولة في العالم آنذاك، وكذا ملاحظتهم بالسبر التاريخي أن حركة الإحياء الإسلامي وحركات مقاومة الاستعمار المعاصرة، كلها جاءت متزامنة ومتأثرة بالفكر السلفي، فعمل هؤلاء على حرب السلفية بطرق شتى منها تشويهها عبر نسبة التكفير والجماعات المتبنية للإرهاب إليها، وحث الحكومات في العالم أجمع، وفي العالم الإسلامي، على حربها ومحاصرة أنشطتها.
وأيضا: قامت المراكز البحثية الغربية كمركز راند وكارنيجي ومركز مراقبة الجهاد وغيرها بتقديم التوصيات بالتضييق على السلفية، وبعث الصوفية والأشعرية.
ومنهم مسلمون مناصرون للبدع رأوا في السلفية خطرا على بدعهم الكثيرة التي غطت حقيقة الإسلام زمنا من الدهر.
وكان من وسائل إعادة نشر البدع: نسبة القول بها إلى الأمام أحمد، رحمه الله، وذلك بالاحتجاج بأقوال بعض فقهاء الحنابلة الذين تأثروا بالمحيط العام من الأشعرية والصوفية، وأيضا بالاحتجاج بأقوال الإمام أحمد المشتبهة، وكذلك نفي كون منهج السلف هو السنة، أو دعوى كون ما أظهره الأشاعرة من بدعة التأويل هو السنة، والخلط بين نفي كون بدعة التأويل من السنة وبين نسبة جماهير المسلمين ممن يقلدون علماء على المنهج الأشعري في الصفات إلى أهل السنة. وللأسف جاء عمل هؤلاء متخادما مع التوصيات الغربية بحق السلفية، سيرا على هذا النهج من التضييق على منهج السلف، وسارت ضمن هذا الركب للأسف في الأعوام الأخيرة مؤسسات علمية عربية وإسلامية، سعيا لإعادة البدعة إلى سالف مجدها الذي أضعف منه شيوع منهج السلف.
ولعل حرمان الطالب الذي أشرنا إليه في أول المقال من درجة الدكتوراه في جامعة الأزهر جاء ضمن هذا السياق، وهو سياق من حيث حضوره التاريخي ليس جديدا، كما تبين معنا في المقال، ولا ينبغي أن يكون مستغربا، ومع ذلك فما زلنا نتمنى أن تُصدر الجامعة بيانا علميا مؤصلا مقنعا ينفي كون هذا الإجراء جاء في سياق العدوان على عقيدة السلف، أو أن تعيد إدارتها القانونية والعلمية النظر في صحة هذا الإجراء.