توقفتُ في المقالة الماضية عند أفكار متبقية حول أخلاقيات المدح والذم، ووعدتُ بالنظر إلى الموضوع من زاوية الراهن السعودي، ومن حيث ما يمكن أن يكون من تداخل المدح والذم في الأسباب والبواعث.
عند النظر من زاوية الواقع المعاصر، ومنه الواقع السعودي، فإن من أهم ما يمكن أن يقال هو وجود اختلاف طفيف في أسباب المدح وبواعثه بين العصور التاريخية، ذلك أنه في ظل الدولة الوطنية الحديثة -أعني الدولة الحديثة بوصفها مصطلحا ذا مفهوم- صار بعض المدح بنوعيه: الشعري، والنثري، ممزوجا بالحس الوطني، والحب النابع من الوجدان، وصارت قصيدة المدح -في الغالب- تتجه إلى الحكام، مما حولها إلى قصيدة وطنية تستدعي -بإيمان نسبي- الوحدة الوطنية، والدولة الحديثة، وتصور التنمية والمنجزات والمواقف السياسية بطريقة مغايرة في تفاصيلها لما كانت عليه قصيدة مدح الحكام في الأدب العربي القديم.
وعليه، فالقول إن قصيدة المدح الحديثة تهدف إلى الكسب المادي، لم يعد قولا مطلقا، وإذا نال شاعر مادح عطية أو هبة أو منصبا، فإنه يمكن إيجاد قرائن تدل على أن المكاسب لم تكن الهدف في الحالات كلها؛ ذلك أن المدحة الجديدة صارت مشوبة بالفخر الوطني، مما يجعلها صدى لما يجيش في وجدانات المنتمين إلى الوطن.
عند ربط الفكرة بالواقع السعودي، أجدني في ريب من أحكام الدكتور بكري شيخ أمين، على موضوع المدح عند الشعراء السعوديين، فهو يرى أن مديح الشعراء السعوديين للرموز لا يحمل جديدا -في المعاني أو البواعث- يجعله مختلفا عن المديح في الشعر العربي القديم، ويحصر الجديد في «إحلال بعض الألفاظ محل غيرها»، نافيا أن يكون: ظهور الروح الوطنية، أو تقليص الحديث عن ذات الممدوح، أو الحديث عن إصلاحات الممدوح ومنجزاته الوطنية، من السمات الجديدة للمدح في الشعر السعودي!
ومع الإيمان بفضل الدكتور بكري شيخ أمين، على البحث الأدبي في بلادنا، أزعم أن حكمه هذا قد يكون نابعا من أنه لم يشهد التغيرات التي طرأت على البلاد في ظل الوحدة الوطنية، وهي التي عاصرها شعراء الجيل الأول، وأدركوا أسبابها، فكانت مدائحهم نابعة من الإيمان بإيجابيات الواقع الجديد، وربما لم يتنبه الدكتور بكري شيخ أمين إلى أن العلاقة بين الشاعر والسلطة علاقة معقدة، وأنها تتجاوز مسائل: المديح، والعطاء، والاستجداء، إلى كونها عاملا مهما من عوامل توجيه الأدب، وازدهاره، أو خموله، وهي ليست علاقة دون موقف، وإنما هي مبنية على موقف حتى في حالات الإشادة.
يقول الناقد أحمد سويلم «.. ولا يجوز لنا أن نحاسب الشاعر وحده على موقفه من السلطة إن سلبا أو إيجابا، وإنما ينبغي أيضا أن نستظهر موقف السلطة من الشعراء، ومدى استجابتهم، كما علينا أن نضع ذلك في ظل زمانه وظروفه الخاصة».
ورغم ذلك، فإنه لا يحق لأحد أن يجزم بأن قصيدة المدح عند الشعراء السعوديين كانت بدعا من عصور الشعر العربي، إلا أنه يستطيع أن يجد في بعض منها الحد المطلوب من الصدق الفني، وهو بعض لا أستطيع تحديد نسبته الكمية إلى مجمل قصائد المدح التي نظمها شعراء سعوديون، بيد أنني أجزم أن هذه النسبة الصادقة أكثر منها بكثير في قصائد الشعراء العرب الذين مدحوا رموز السعودية، عبر ما يزيد على مئة عام.
المدون أعلاه ليس تبريرا للتزلف والنفاق، وإنما هو محاولة تقرير واقع، فكثير من قصائد المدح الصادرة عن شعراء سعوديين، تمتزج بالروح الوطنية، وقد تقدم تصوير الوطن ووحدته ومنجزاته، على القول في الممدوح، مما يعني أن الوطن صار متن القصيدة الذي يقود إلى القول في الممدوح، بوصفه رمزا وطنيا، فضلا عن أن هذه القصائد تكاد تخلو من معاني الاستجداء وطلب العطاء، وربما تضمنت بعض القصائد شيئا من وصف كرم الممدوح وصفا لا يذهب إلى طلب العطية طلبا مباشرا، ومما يؤيد القول بسيطرة الروح الوطنية على قصائد السعوديين المدحية، وجودُ شكل من أشكال الاستطراد المدحي؛ فالشاعر الذي يمدح الملك عبدالعزيز -مثلا- يذهب بالقول إلى مدح أبنائه الملوك على التتالي، وهي ظاهرة نجدها عند شعراء الجيل الأول الذين عاصروا أكثر من عهد.
عند تجاوز الإيجابيات النسبية السابقة، إلى موضوع القدح والهجاء، نجد الهجاء السياسي عند أكثر الشعراء السعوديين التقليديين، مشوبًا بشيء من الاندفاع في تشويه المهجويين السياسيين، وقد يكون ذلك بهدف التقرب والتكسب، أو يكون ناجما عن بغض حقيقي لأعداء الوطن، وهم في ذلك يحولون الهجاء إلى موقف وطني أو قومي أو ديني، وإلى دفاع عن الوطن، وهجوم على أعدائه.
هذا النوع من الهجاء يقود إلى مأزق أخلاقي غير لائق؛ ذلك أن هؤلاء الشاتمين، سواء أكانوا من الشعراء، أم من الكتاب، أم من المغردين، يندفعون في الشتائم المقذعة، متجاهلين أن السياسة قائمة على المتغيرات وعلى عدم الثبات، مما يوقع هؤلاء الشاتمين -وأخص الشعراء والكتاب منهم- في حرج كبير أمام التاريخ، وأمام أنفسهم، فضلا عن أنهم يوقعون الوطن كله في الحرج، خاصة عند تحول العداوة أو الخلافات السياسية إلى علاقات طبيعية مع الساسة أو مع الأنظمة.
قد يقول قائل: إن شتم أعداء الوطن انتصار له، وتأييد للقيم الانتمائية، واحتفاء بها، وتأكيد عليها، فأقول: نعم، وهي فوق ذلك تأييد لوطن هو الوجود والمآل، إلا أن شرط ذلك -أخلاقيا- هو ألا يقوم على سلب الفضائل النفسية الفردية للمهجويين السياسيين، ولا يكون شتما وسبابا مجردين، ولا يتعرض للأعراض، ولا للممارسات الشخصية البعيدة عن إطار العمل السياسي.
أزعم أن وعي الإنسان يتطور مع مرور الزمن، والبدهي أن ينعكس هذا الوعي على تناول الموضوعات -أي موضوعات- ومنها موضوعات ذكر العيوب والمثالب والانتقاص، وهذه الفكرة لمسها الدكتور محمد محمد حسين لمسة خاطفة في كتابه: «الهجاء والهجاؤون في الجاهلية»، وهي تحتاج إلى بحث عميق ينطلق من الأخلاقيات، ويربطها بتطور الوعي الإنساني.
ومهما يكن من أمر، فإنه حين يصف الهجاء بأنه «أدب غنائي يصور عاطفة الغضب أو الاحتقار أو الاستهزاء، وسواء في ذلك، أن يكون موضوع العاطفة هو الفرد أو الجماعة أو الأخلاق أو المذاهب»، فإنه يفترض الصدق على الدوام، وليس ذلك ممكنا.
على المستوى الشخصي، أرى أن اعتماد الهجاء الشعري -سواء أكان سياسيا أم شخصيا- على الشتم والسباب، يجعله مناقضا لمفهوم الجمال في الشعر، وأضيف، أن قوة الأسلوب، وجمال الصياغة، والإبداع في التصوير، عناصر فنية لا تغفر للشاعر اقتراف إثم الشتم والإقذاع؛ ذلك أنه لا يمكن فصل سمو الموضوع عن الشكل في تقييم العمل الفني أو الأدبي، ولا يمكن قبوله حين يجمع بين المتناقضات، فيخلط: القبح الماثل في الشتائم، والتقاط المعايب وتضخيمها، بالفن القولي بوصفه قيمة، وهو فعل يتناقض مع الرؤى الفلسفية حول مفهوم الجمال.