من الضروري تحصين الرأي العام العربي من الغزو الثقافي المكثف القادم من تركيا، التي لم ولن تتوقف عن تكوين التحالفات السياسية، التي تضمن لها موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع التطورات التي تلت هذه الحرب، وانقسام العالم إلى معسكرين: شرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وغربي بقيادة الولايات المتحدة، ازدادت أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للدول الغربية، فقد أكد دوايت آيزنهاور -خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 1951- أهمية الشرق الأوسط قائلا: «أما فيما يتعلق بالأهمية السياسية لهذه المنطقة، فليست هناك منطقة في العالم لها أهمية من الناحية الإستراتيجية أكثر مما للشرق الأوسط».
كانت تركيا في تلك الفترة تعيش حالة عزلة شديدة عن الشرق الأوسط، مفضلة الابتعاد عن الشؤون الشرق أوسطية، وعن أي أحلاف إقليمية تضعها في دائرة الضوء، أو تلقي عليها بمهام أو أدوار سياسية في منطقة الشرق الأوسط.
فمنذ سقوط الدولة العثمانية، وقيام الجمهورية التركية بزعامة أتاتورك، أدارت تركيا ظهرها للشرق الأوسط، وقام أتاتورك بتوحيد الأتراك حول القومية التركية، وهذا الالتفاف والتعلق بالقومية التركية كان من نتائجه أن انكفأت تركيا على الداخل، وكفت عن التطلعات الخارجية نحو العالم العربي.
ولكن مع قدوم عدنان مندريس، وفوز حزبه في الانتخابات البرلمانية، وتشكيل حكومته عام 1950، أعلنت حكومة مندريس اتخاذ خط جديد مخالف لخط معلمه الأول «أتاتورك» الذي خرج من تحت عباءته، فقرر إقحام تركيا في شؤون الشرق الأوسط، فكان أول حلف أسسه هو حلف بغداد عام 1955، ضم هذا الحلف إضافة إلى بعض الدول الغربية «تركيا والعراق وإيران» بداعي الوقوف في وجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط، ولم تدخل الولايات المتحدة في الحلف علانية، لتبقى في مظهر المحايد بين الدول العربية، ولكنها كانت تدير اللعبة من خلف الستار.
كان حزب عدنان مندريس يلعب دور التائب من العلمانية الأتاتوركية، فقد قام برفع شعارات دينية في سبيل كسب تعاطف الرأي العربي والإسلامي، ومن هذه الشعارات: إعادة الأذان باللغة العربية، والتسامح مع الحجاب، والتظاهر بالاهتمام بالمساجد وترميمها، وهذه الإجراءات معتادة عندما ترغب تركيا في إقحام نفسها في شؤون العالم العربي، مع أن مندريس آنذاك لم يصرح بأنه إسلامي أو مؤيد للإسلاميين، بل على العكس من ذلك فقد قذف بتركيا في قلب العالم الغربي، حينما انضمت تركيا في عهده إلى حلف شمال الأطلسي، وقد أقام مندريس علاقات قوية ومتينة مع الدول الغربية، وكانت تركيا في عهده تمثل رأس حربة وحصان طروادة لمواجهة الخطر الشيوعي المزعوم، وساند مخططاتها في المنطقة وخارجها، بما في ذلك إرسال قوات تركية إلى كوريا، فقد حاولت تركيا -آنذاك- استغلال هذه الحرب للتقرب من الدول الغربية، تحت غطاء تمسكها بمبادئ السلام العالمي.
وحين وصل عدنان مندريس عام 1955 إلى بغداد، حيث أعلن أن تركيا والعراق قررا عقد اتفاق عسكري بينهما، يرمي إلى تحقيق التعاون والاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، ويدعو الدول العربية للانضمام إليه، وكان الدافع الرئيس لها في الإلحاح على تأسيس حلف بغداد، هو ضمان حصولها على المساعدات الأميركية، فقد استقبلت تركيا في عهد مندريس دعما ماليا أجنبيا غير معهود في مجالات اقتصادية متعددة، لذلك حرصت تركيا على الدوام على تعزيز دورها، ومحاولة التصرف كوكيل في المنطقة لدول حلف الناتو.
اصطدم حلف بغداد بمعارضة عربية قوية، فقد كان هناك موقف مشترك بين السعودية في عهد الملك سعود -رحمه الله- ومصر في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وكان هذا الموقف رافضا -وبقوة- هذا الحلف، نظرا لأنه يهدد تماسك الدول العربية، ولأن هذا الحلف كان منذ البداية موجها ضد مصالح الدول العربية وشعوبها.
ولكن حلف بغداد لم يستطع مقاومة الرفض العربي الذي تشكل على هيئة حملات إعلامية مكثفة، ورفض شعبي عارم، أسفر في نهاية المطاف عن إسقاطه، وهذا الحلف الذي لم يكن في حقيقته إلا حلفا سياسيا استخباراتيا، لم يكن الأخير في سلسلة الأحلاف والمشاريع السياسية في الشرق الأوسط، التي تلعب فيها تركيا دائما دور الوكيل لمصالح دول حلف الناتو.
واليوم، عادت تركيا مجددا لعملية التحالفات الإقليمية. بالأمس كان حلف بغداد وأطرافه هم «تركيا والعراق وإيران»، واليوم أجهض حلف جديد يجمع «حزب العدالة والتنمية، وإيران، والإخوان المسلمين»، ولكن هذه المرة نجح جزئيا حزب العدالة والتنمية في تسويق صورته أمام الرأي العام العربي عن طريق وسائله الناعمة، وأهمها كانت الدراما التركية المدعومة ماليا من الحكومة التركية، والتي تحظى بإشراف مباشر من المسؤولين السياسيين الأتراك، فضلا عن بعض الوسطاء العرب من النخب الدينية والإعلامية، الذين عن طريقهم تم خلق دعاية منظمة مبنية على منهجية معينة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورموز الدولة العثمانية، ولا شك لدينا في أن حزب العدالة والتنمية قد حصل على نوع من التعاطف في فترة ما من الشارع العربي، لأن الدعاية الموجهة كانت تصور الرئيس التركي وكأنه تائب جديد من العقيدة الأتاتوركية العلمانية، مثل سلفه السابق عدنان مندريس.
وهذه الدعاية الإعلامية حاولت ربط تاريخ الدولة العثمانية بسياسة حزب العدالة والتنمية، كنوع من إضفاء البعد التاريخي على الحزب، حتى يظهر لعامة الشعوب العربية وكأنه حزب متمرد على علمانية أتاتورك المتطرفة.
مثل هذه الرسائل ذات الطابع السياسي، والموجهة إلى العقل الجمعي العربي، غالبا ما تنطوي على كذب وخداع، ولها مفعول السحر على المتلقي العربي، لذلك، أصبح من الضروري تحصين الرأي العام العربي من هذا الغزو الثقافي المكثف القادم من تركيا، التي لم ولن تتوقف عن تكوين التحالفات السياسية التي تضمن لها موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط.