السعودية التي لديها كثير من الأعداء والمعارضين، لم يكن من سياستها يوما اتباع أسلوب التصفيات أو الاغتيالات أو المطاردة في الخارج، فنهجها الديني والإنساني الذي تقوم عليه، يأنف عن تلك الأساليب التي لا تتفق مع أنفتها ووضوحها

في عام 2016، وضعت تركيا -بعد محاولة انقلاب يوليو- القس الأميركي أندرو برانسون تحت الإقامة الجبرية، بعد أن سُجن أكثر من 21 شهرا بتهمة دعمه حزب العمل الكردستاني، وجماعة فتح الله غولن، رجل الدين والمعارض التركي اللاجئ في أميركا منذ عام 1999، والمتهم بالوقوف وراء محاولة الانقلاب المذكورة.
نتج عن هذا الاعتقال توتر شديد في العلاقات بين أميركا وتركيا، فرضت معه واشنطن مجموعة من العقوبات على أنقرة، أدت إلى أزمة اقتصادية وهبوط حاد لليرة التركية أمام الدولار، وهو ما لن تستطيع تركيا تحمله على المدى البعيد، والذي سيجعل الرئيس التركي يرضخ للمطالب الأميركية، ويضطر للإفراج عن القس الأميركي، لأن الاقتصاد التركي لن يتحمل العقوبات التي فرضها ترمب، والتي ستؤدي إلى خروج المستثمرين الأجانب من السوق التركية -كما ذكرت صحيفة «فايننشال تايمز» في عددها الصادر في أغسطس 2012- وهو ما حدث بالفعل حينما أطلقت تركيا القس الأميركي برانسون في 12 أكتوبر الماضي، على الرغم من أن إردوغان -بداية أزمة سجن القس- صرح بأكثر من طريقة «لن أنحني لمحاولات واشنطن لتأمين إطلاق برانسون» وما قال وزير خارجيته، «لا أحد يأمر تركيا»، ثم تحسنت العلاقات التركية الأميركية بعدها على نحو كبير وملحوظ.
تركيا التي تحاول جاهدة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي منذ 2005، خسرت مساعدات من دول اليورو بقيمة 70 مليون يورو في الثاني من أكتوبر الماضي، عقابا لها على ما أسمته دول الاتحاد التي صوتت ضد المساعدة الموضوعة منذ عامين قيد الاحتياط، أنه بسبب «انتهاكها حقوق الإنسان وحرية الصحافة فيها»، وقد حازت بعد إطلاق برانسون رضا نسبيا من الكونجرس الأميركي، الذي يمهد للسماح لترمب ببيع أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية «باترويت» في مقابل أن يتخلى إردوغان عن صفقته مع الروس لشراء أنظمة الدفاع الجوي «أس-400»، والمقرر تنفيذها أواخر 2019 وبدايات 2020، والتي تتعارض مع كونها حليفا للناتو، عليه ألا «يخرج عن طوعها» في صفقات غير محسوبة على المدى البعيد.
في الأسابيع القليلة الماضية، ظهرت مجددا على الساحة -في شمال سورية والعراق- عناصر للدولة الإسلامية «داعش»، بعد بوادر لانحسارها من مناطق واسعة في البلدين، مع استمرار الصراع القديم بين حزب العمال الكردستاني وبين الحكومة التركية، والذي تَزعَّم الشق السوري منه العمليات العسكرية ضد «داعش» بدعم وتمويل من الولايات المتحدة الأميركية التي تداهن بدورها الحكومة التركية الساعية إلى أن تتخلى أميركا عن دعم هذا الحزب، وذلك خلال مشاركتها لها في العمليات الأخيرة في منبج، لكن القوات التركية تراوغ أيضا وتستعد لعملية عسكرية كبيرة شرق الفرات، دون انتظار دعم ومساندة منها، وفي تحرك قد يفهمه العالم أنه ضد تنظيم «داعش» بينما هو يستهدف مصالحها الخاصة ضد الأكراد، ولو على أراضي غيرها.
تتحرك تركيا في كل الاتجاهات لتحقيق مصالحها، وإعادة وهم الخلافة الكبرى، وتزعُّم الشق السنّي للعالم الإسلامي، وقيادة مشروع الشرق الأوسط الجديد، تحرك لا يقل عن مقال إردوغان الذي نشرته «واشنطن بوست» الجمعة الماضي، الثاني من نوفمبر، والذي ترك فيه كل شؤون بلاده الداخلية وقضاياها الخارجية، ليفرد مقالا للحديث عن قضية داخلية تخص المملكة العربية السعودية، ويتساءل عن مآل التحقيق في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بينما السجون التركية تغص بآلاف الصحفيين والقضاة والأطفال، ولم ينازعهم في شأنهم أي أحد.
لقد استغلت تركيا وغيرها من الدول والمنظمات والأحزاب المعادية والمخالفة للمملكة العربية السعودية، استخدام الإعلام وتوجيهه ضد المملكة لتحقيق مصالح خاصة لها، أو لتغطية مواقف وتحركات تخصها، وللمساس بالسعودية الجديدة التي تتغير إلى الأفضل على كل الأصعدة، ويزعجهم هذا التغير والتقدم للأفضل، وتلقف هذا السيل من الإعلام الموجه ضد المملكة الأفرادُ الذين يجرفهم هذا التيار من كل التوجهات، فيسيئون بدورهم إلى الوطن بقصد أو غير قصد.
كل هذا يحدث في ظل حراك إعلامي لا يواكب المرحلة ومتطلباتها، التي تحتاج تحركا يزيد أو يواكب على الأقل ما يقال وينشر ويحلل بطرق مضللة ومزيفة، وإن حدث جهد فهو يوجه إلى المتلقي المحلي الذي أثبتت الأزمة أنه مع وطنه وقيادته قلبا وقالبا، وتجاهل الإعلام المتلقي الخارجي الذي يحتاج الكشف والتحليل والإجابات التي لا تزايد على الوطن، ولا على توجهاته الواضحة، ولا خطه السياسي الحكيم.
حينما بدأت قضية المواطن الصحفي جمال خاشقجي في الظهور على السطح، اتبعت السعودية سياستها الرصينة في تحري الحكمة والصمت حتى يحين الحديث بما يجب أن يقال، وهذا ما وعدت به بعد انكشاف بعض الخيوط في تلك الحادثة المؤسفة: أن تتولى بنفسها التحقيق والمحاسبة، باعتبارها قضية وطنية تخص مواطنيها.
السعودية التي لديها كثير من الأعداء والمعارضين، لم يكن من سياستها يوما اتباع أسلوب التصفيات أو الاغتيالات أو المطاردة في الخارج.
فنهجها الديني والإنساني الذي تقوم عليه يأنف عن تلك الأساليب التي لا تتفق مع أنفتها ووضوحها، قبل أن يتفق مع مكانتها السياسية القوية والمؤثرة في العالم، كما أنه ليس من عادتها أن تصطاد في الماء العكر، أو تراوغ كالثعالب لتحقيق أي مصالح خاصة أو عامة، فإن كان لديها موقف قالته بوضوح، وإن كان لديها هدف سعت إليه بهدوء، وإن كان لها رأي أعلنته على رؤوس الأشهاد كما يليق بها.
لذا، فإن الأساليب التي ينتهجها بعض قادة الدول لتحقيق مصالحهم، خلال ادعاء الحرص على حقوق الإنسان، وحريات الصحافة والإعلام، ليست من أدوات السعودية التي قد تستخدمها يوما.
ما زالت الحكمة السعودية ورصانة السياسة تتسيدان المشهد وسط الغثاء الدولي والإعلامي حول قضية الصحفي السعودي -رحمه الله- متناسين جميعهم الأهداف التي حققتها تركيا وما زالت تحققها وسط هذه الفوضى الإعلامية الموجهة والمصطنعة، بدءا من قضية القس برانسون، وليس انتهاء بشرق الفرات.