«ممارسات الأنشطة الاقتصادية البشرية الحالية قد أثرت بشكل كبير على التنوع الأحيائي والتناغم بين المخلوقات. ومن ضمن هذه الأنشطة ممارسات غير مشروعة كالتجارة غير القانونية وممارسات ليس لها ضوابط قانونية بعد، كرفع الإنتاج الزراعي لمقابلة زيادة الطلب».
شهر أكتوبر كان شهرا حافلا بالمناسبات المتعلقة بالبيئة، حيث احتفل العالم العربي خلال منتصف الشهر بيوم البيئة العالمي، والذي جاء بناء على توصية اتخذها وزراء البيئة من الدول العربية حينما اجتمعوا لأول مرة في تونس منذ أكثر من ثلاثين سنة لمناقشة وضع خطة إقليمية مشتركة للحفاظ على البيئة والتنوع البيئي. وفي نفس العام أنشئت الهيئة السعودية للحياة الفطرية، والتي من مهامها الحفاظ على التنوع النباتي والحيواني في الأرض والبحر. كما عُقد بمنتصف الشهر أيضا المؤتمر الدولي الرابع للتجارة غير المشروعة في الحياة البريّة بمشاركة الجهات ذات العلاقة قي المملكة العربية السعودية. وعند الحديث عن التجارة غير المشروعة في الحياة البرية يتصدّر موضوع التجارة بالعاج كمصدر رئيسي مقلق على الساحة الدوليّة. وقد نتج عن ذلك خسائر كبيرة في اقتصادات العالم ونتج عنه تبعات متعددة أمنية وبيئية. ويعد الفيل الضحية الصامتة والقضية الكبرى في العالم للصيد غير المشروع. والفيل ليس إلا واحدا من المخلوقات المهددة بالانقراض بتعدد المسببات البشرية بين صيد جائر وإفراط في الصيد والاتجار غير الشرعي وما إلى ذلك.
لندن التي احتضنت المؤتمر الدولي الرابع للتجارة غير المشروعة هي المدينة التي تسكنها المنحوتة الضخمة «دونامس»، والتي هي أحد أجمل الفنون العصرية العامة التي تزين شوارع العالم. دونامس المنحوتة التي تعكس مشهدا لرجل السيرك يحمل بيده الفيل عاليا من خرطومه لها عدة أبعاد رمزية، من أجملها صورة التناغم والتعايش بين الإنسان والمخلوقات الأخرى. وما علينا أن نعي جيدا اليوم هو أن ممارسات الأنشطة الاقتصادية البشرية الحالية قد أثرت بشكل كبير على التنوع الأحيائي والتناغم بين المخلوقات. ومن ضمن هذه الأنشطة ممارسات غير مشروعة كالتجارة غير القانونية وممارسات ليس لها ضوابط قانونية بعد، كرفع الإنتاج الزراعي لمقابلة زيادة الطلب.
وفي هذا الصدد أودّ أن أستذكر المهمة الجمعية للإنسان في هذه الحياة، ألا وهي الاستخلاف بمعنى التكليف المسؤول والتفويض بعمارة الأرض. وقد ابتدأت قصة مهمة استخلافنا للأرض مع استيطان آدم وحواء لها. واستخلاف الله للإنسان في الأرض يقع تحت تكليف الأمانة التي قبل أن يحَملَها الإنسان، واعتذرت عن قبولها مخلوقات أعظم من خلق الإنسان، وهي السموات والأرض والجبال لعظم شأنها. والاستخلاف يعني مهمة وجودية تجعل الإنسان مسؤولا أمام خالقه -سبحانه وتعالى- لتحقيق الأمانة والوديعة والتي هي الحفاظ على البيئة والحيوانات والمخلوقات الحية، وإحسان استخدامها وتوظيفها في الإعمار وليس التدمير. وهذه الخلافة تقوم على مبادئ المحافظة على التكاثر والتنوع الذي لا يقتصر فقط على مصلحة البشر، بل يشمل جميع المخلوقات التي تشاركنا رحلتنا في الحياة.
من العوامل التي لطالما كانت التحدّي الأكبر للتنوع البيئي هي الانقراض، وقد قسم العلماء المسببات الرئيسية لظاهرة الانقراض إلى نوعيين فرعيين، هما المسببات الطبيعية والمسببات البشرية. منذ نشأة الخلق شهدت الأرض ما يقارب خمسة انقراضات جماعية بمسببات طبيعية، حيث يموت من ربع إلى نصف الكائنات الحية، وتختفي سلالات وتظهر سلالات جديدة. خلال العصور الثلاثة الأولى التي شهدت الانقراضات الجماعية: العصر الأوردوفيشي، العصر الديفوني المتأخر والعصر البرمي، كانت أكثر الكائنات تضررا الكائنات البحرية والشعب المرجانية والحشرات، وقد تلا ذلك انقراض العصر الترياسي- الجوراسي (الرابع)، والذي قضى على كثير من الزواحف والبرمائيات، مما أدى إلى ظهور الديناصورات التي عاشت في العصر الطباشيري الثلاثي، والذي حدث فيه أحدث انقراض جماعي وهو الخامس. منذ 65 مليون سنة اختفت الديناصورات ونتج عن ذلك ظهور عصر الثديات الذي نعيش فيه الآن. وفي كل من العصور الخمسة تعددت العوامل المؤدية للانقراض بين تغير في المناخ وثورات بركانية، واصطدام جسم فضائي ونقص في غاز الأكسجين أو هبوط مستوى البحر، لكن كانت الأسباب بتعذر ذكرها كاملة أسبابا طبيعية.
أمّا بالنسبة لظاهرة الانقراض لأسباب غير طبيعية فالإنسان هو المتهم الأول في انتشار هذه الظاهرة. اليوم وبعد مرور حوالي 65 مليون سنة على اختفاء الديناصورات، تواجه الحياة الطبيعية بمخلوقاتها المختلفة تحدي الانقراض، حيث ارتفعت نسب انقراض النباتات والحيوانات على التوازي. من المسلّم أن الإنسان يتصرف بدافع من مصالحه المباشرة وهو لا يحافظ إلا على ما يحب، ولا يحب إلا ما يعرف، إذ إنه عادة عدو لما يجهله. ومن هنا جاءت التصرفات السلبية المناقضة للبيئة من كثيرين من البشر الذين لا يقدرون البيئة حق قدرها، ولا يعرفون أنها العامل المحرك لكل ما يتصل بحياتهم ويعود عليهم ويؤثر فيهم، كما أن البيئة أيضا بدورها تتأثر بهم.
ولعلنا بمناسبة اليوم العالمي للبيئة نحاول أن نتعرف على حقيقة البيئة التي يجب أن نحافظ عليها استجابة لأوامر الله الذي استخلف الإنسان على كوكب الأرض، وتحقيقا لمصالحنا ومصالح الأجيال القادمة. وإذا كانت الدول العربية قد حددت يوما عالميا للبيئة منذ ما يقارب 30 عاما فإننا اليوم ونحن نواجه عصر العولمة والتكتلات الاقتصادية وغيرها أحوج ما يكون لدعم هذا التعاون عالميا، من خلال توطين أهداف التنمية المستدامة العالمية المتعلقة بالبيئة وترجمتها إلى خطوات عملية تفيد البيئة محليا، وبالتالي عالميا. والحل الممكن الوحيد هو إحداث التوازن بين ما يمارس لتوفير الاحتياجات الأساسية وبين المحافظة على النظم البيئية الطبيعية ووضع قوانين واضحة للممارسات البيئية.
ويبقى أنه على كل منا أن يقوم بدوره على قدر استطاعته لخدمة بيئته بكل ما يستطيع، سواء أكان ذلك بتبني سلوكيات شخصية متوافقة مع البيئة، أو بدعم مادي يقدم للمنظمات والجمعيات والمشاريع المتعلقة بهذا المجال. ثم يأتي بعد ذلك دور الهيئات والجهات المختصة في مجال البيئة والجهات التعليمية لتكثيف جهودها وتواجدها في المناسبات، برفع الوعي البيئي حتى يكون سلوك المجتمع تجاه البيئة توجها دائما للحفاظ على سير الحياة.