لم أر بين الكائنات «الدونية» مخلوقا.. «متسلقا» مثله.. ولو أردنا أن نصفه -باختصار- لقلنا: إنه حشرة تعيش في الأعماق.. النتنة.. الرطبة.. المظلمة.. لكنها «تتسلق» طريقها إلى السطح.. بكل الغباء.. والعفونة.. والانتهازية اللزجة.. التي يتفرد بها «الصرصار» من بين مخلوقات السطح والأعماق. فـ«الصرصار» يولد.. وين

لم أر بين الكائنات «الدونية» مخلوقا.. «متسلقا» مثله..
ولو أردنا أن نصفه -باختصار- لقلنا: إنه حشرة تعيش في الأعماق.. النتنة.. الرطبة.. المظلمة..
لكنها «تتسلق» طريقها إلى السطح.. بكل الغباء.. والعفونة.. والانتهازية اللزجة.. التي يتفرد بها «الصرصار» من بين مخلوقات السطح والأعماق.
فـ«الصرصار» يولد.. وينشأ.. بين أحشاء الظلمة.. وعلى جدران.. «البلاليع».. و«البيارات».. وفي أجواف «المجاري».. وبين أكوام.. القاذورات.. والفضلات..
ولذلك فقد اكتسب كل المهارات اللازمة للتعامل.. مع الظلام.. والعفونة.
فجسده.. البيضاوي.. «المفلطح».. اللزج.. يسمح له بالمرور بين «الثغرات» الضيقة، والطفو فوق «الأسطحة» السائلة، والتحايل على تيارات «النظافة» الجارفة القادمة من الأعالي.
و«أقدامه» الشوكية تساعده على تسلق «الأسطحة» الناعمة.. مهما بلغت شدة انحدارها، و«رأسه» المنحني إلى الخلف -على خلاف الحشرات جميعها- يعطيه الفرصة.. كي ينظر -باستمرار- إلى «الصاعدين» وراءه.. ليركلهم في اللحظة المناسبة.. لأنه يعلم أن «المنافذ» العلوية.. ضيقة.. ومحدودة. وأن السطح لا يتسع لـ«صراصير» كثيرة.
«قرونه» الاستشعارية – تعمل كرادار «الأوكس» في جميع الاتجاهات.. فتجعله يحس
-على الفور- بحركة «القادمين».. و«الذاهبين».. و«الصاعدين».. و«المنحدرين».. وتعطيه فرصة «الكر».. و«الفر».. و«الظهور».. و«الاختفاء».
تلك هي بعض «مهارات» الأعماق.. التي تحترفها وتتقنها.. «الصراصير».. الملوثة،
لكنها «مهارات» عالم «دوني».. كئيب.. لا تناسب الحياة.. في عالم «الأسطحة».. المشرقة.
إن «مهارات» المجاري الملتوية.. لا تصلح للطرقات النظيفة.. المستقيمة، وأخلاق.. العفن.. الدامس.. لا تلائم النظافة الناصعة، و«استعدادات» «التزحلق».. والتسلق والنفاذ.. من الثغرات الضيقة.. لا تعد ميزة كبرى.. في ساحات أفقية رحبة.
لكن الغباء «الصرصاري».. الموروث.. لا يساعد الصرصار.. على تغيير سلوكه.. ليلائم.. أوضاع «السطح».. وظروفه.
ولذلك تفقد الصراصير توازنها..
عندما تنجح في الصعود إلى «الأسطحة» ليصيبها ما يمكن أن نسميه «جنون» الأسطحة.. الذي يفقدها إحساسها.. بـ«الزمان».. و«المكان».. و«المناسبة»، فنجدها تغادر فتحات «البلاليع» للتجول.. وتتصدر الأماكن الطاهرة.. النظيفة ونجدها -في «هوس» التسلق المسيطر عليها- تصر على إخراج قرون استشعارها.. من الثقوب وبالوعات المغاسل..
فتثير القرف.. والغثيان و«التوجس» من موجات.. القذارة.. التي تنبئ عنها.. و«تبشر» بها.
ولهذا.. لا تعمّر «الصراصير» في الأعالي طويلا.
فـ«الترعة».. الإنسانية.. النظيفة -التي لم ينزعها الله من الكون- بعد لا تحتمل «الصراصير».. وأخلاقها النجسة.
وسرعان.. ما تلقى «الصراصير» مصيرها المحتوم عندما تسحقها الأقدام..
وتلقى بها إلى «المزابل».. و«المراحيض».. حيث أتت.
وربما كانت هذه «حسنة» الصرصار.. الوحيدة.
عندما يستثير في الإنسان «مشاعر» التطهّر.. والنظافة..
ويكرّس فيه إحساس «القرف» من الأذى.. و«النجس»..
ويدفعه.. إلى اتخاذ موقف إيجابي..
عندما يسحق «صرصارا».
ويلقيه.. بعيدا.. وفي الأعماق.
اليمامة
10/ 7/ 1404

 

------------------- كتاب غائبون ومقالاتهم حاضرة

أنور عبدالمجيد الجبرتي

 ولد عام 1368/ 1949 في المدينة المنورة
 دكتوراه في الاقتصاد من جامعة أوريجون بالولايات المتحدة عام 1400/ 1980
 وكيل وزارة الصحة
 له بحوث منشورة في مجال الاقتصاد
 يكتب القصة والمقالة