تقول العرب «حسن الخط أحد الفصاحتين». حول هذه العبارة التي قفزت أمامي وأنا أرى بكل حسرة خطوط طلابنا وكيف حالها اليوم، تذكرت ما قاله لي والدي -رحمه الله- وهو واحد من رواد التعليم في عسير قبل 65 سنة، ذات مساء، أن حصة الخط العربي لم تكن حصة عادية تمر علينا كباقي الحصص الدراسية ونحن طلاب، أو عندما أصبحنا
تقول العرب «حسن الخط أحد الفصاحتين». حول هذه العبارة التي قفزت أمامي وأنا أرى بكل حسرة خطوط طلابنا وكيف حالها اليوم، تذكرت ما قاله لي والدي -رحمه الله- وهو واحد من رواد التعليم في عسير قبل 65 سنة، ذات مساء، أن حصة الخط العربي لم تكن حصة عادية تمر علينا كباقي الحصص الدراسية ونحن طلاب، أو عندما أصبحنا مدرّسين فيما بعد، فقد كنّا نَدْرسها ونُدّرسها كما لو كانت حصة في الأدب العربي، فأنا أتذكر ونحن طلاب أن أستاذنا الذي كان يدرّسنا اللغة العربية في ذلك الوقت، حينما كانت اللغة العربية مواد متفرعة، من بينها الخط العربي، إذ كان مادة مستقلة، كان يعرض علينا في البداية النص الذي سنكتبه ونتعلم رسم حروفه، وعادة ما يكون بيتا من الشعر الفصيح من عصور مختلفة، أو مقولة أو حكمة شهيرة تحمل معنى، فيقرأ علينا النص الذي أحضره، ثم يدعنا نقرأه جميعنا، وبعد ذلك يشرح لنا مناسبته، ويحاورنا حول معناه وما تضمنه من معان وأهداف وقيم يريدنا أن نتمثّلها في حياتنا، بعد ذلك يبدأ يشرح لنا كيف نكتب حروف النص وكلماته بخط جميل على السبورة السوداء بالطباشير، وكان في بعض الأحيان، يحضر لنا «أعوادا» مما نسميه ذلك الوقت «الجراع» من المزارع القريبة من المدرسة، ولأنها عيدان طويلة فهو يقوم بقصها قصيرة كالأقلام، ثم يصنع لكل واحد منّا ما يشبه القلم يصنع في نهايته ما يشبه «ريشة القلم» قلم الحبر، ثم يحضر «المدواة» أو المحبرة، ويعلمنا واحدا واحدا، كيف نغمس العود في المحبرة، ثم نكتب على الورق المسّطر أولا رسم الحروف، يليها الكلمات، ولذلك نشأ منّا جيل تكاد لا تفرق بين خطوطهم الرائعة، التي تعد من أجمل ما يمكن أن يكون عليه خط الطالب في ذلك الوقت، الذي يجعلنا حينما نرى خطوط بعض الطلاب اليوم، وبعض الجامعيين والأكاديميين والمدرسين، يجعلنا نتحسر على حصة الخط وجمال الخط وزمان الخط.
ثم يقول: بعد أن نكون قد أتقنّا خط النسخ، يأخذنا إلى خط الرقعة، وكنّا مع هذا الخط نغرم به لجماله وروعته وبه أصبحنا نكتب، خطوط طلابنا اليوم، ومعهم بعض المدرّسين أمر مقلق، فبعضهم تكاد لا تعرف أهو خط أم «خربشات» على ورق! فضلا عن الأخطاء الإملائية التي ترتكب جناية في حق اللغة العربية، اللغة الجميلة الشاعرة التي تواجه الجحود والعقوق من أبنائها، حتى إن بعضهم يروق له أن يتفلسف بمعرفته باللغات الأخرى، بينما هو يجهل لغته الأم، ويعدّ هذا نوعا من الارتقاء في العلم والثقافة، لأنه صاحب لغة أجنبية، حتى إن بعضهم يذكر كلمة إنجليزية ثم يقول لا أعرفها معناها بالعربية!.
إن أسباب ضعف الخط عند كثيرين -طلابا ومدرسين وموظفين- لا يحتاج إلى دراسة ولا بحث، فغياب مادة الخط عن مدارسنا كمادة مستقلة، وذلك «المَشْق» الذي ألفنا منظره ومحتواه، أعني كراسة الخط العربي التي قد أصبحت ماضيا جميلا من مناظر مدرسة الأمس الجميل، ولجوء الطلاب إلى الكتابة على اللوح والأجهزة الإلكترونية مع قلة اللجوء إلى الكتابة بخط اليد، وغياب مجموعات تعلم الخط العربي في مدارسنا، جميعها أسهمت -دون شك- في ضعف إتقانهم مهارة الخط، فالكتابة بخط اليد من أجمل وأمتع ما كنّا كطلاب نمارسه، وما يزال يرن في مسمعي صوت أحد الذين درسوني وهو يصدح بقول شاعر «الخط يبقى زمانا بعد كاتبه... وكاتب الخط تحت الأرض مدفونا».
وأتذكر أن بعض مدّرسي العربي كانوا يطلبون منّا كثيرا أن نكتب قطعا من موضوعات المطالعة مضبوطة الشكل، وقد يطلب منّا تكرارها عدة مرات، وأتذكر أن الخطأ الإملائي كان يُطلب منّا بعد تصويب الكلمة، أن نكرر كتابتها بما لا يقل عن 5 مرات، بعض جيلي قد يرى ذلك عقابا أو عذابا أو قسوة من المدرسين في ذلك الوقت وهو يستذكرها، لكن لعل من يرى خطوط الطلاب اليوم سيقول «سقى الله زمن» ذلك التدريس، بل ليت ذاك الزمن يعود، فمن الخطأ أن يقال عنه تلك الأوصاف، لكن المشكلة لدينا مع التحولات السريعة، والمتغيرات الحديثة «أننا نضرب في كل قديم، ونعدّه سيئا» وهذا خطأ.
ولهذا، فالاعتماد على الكتابة الإلكترونية، والضرب على لوحة المفاتيح، مع إهمال الكتابة بخط اليد، وإهمال مادة الخط كلية كمادة، وقلة التكاليف الكتابية المدرسية، كلها أسباب رئيسة أدت إلى ضعف مهارة اليد في الكتابة، وبالتالي ضعفت خطوط طلابنا وظهرت بشكل رديء، لأنهم لم يتعلموا كما تعلمنّا رسم الحروف والكلمات بخط أيدينا، ليس شرطا أن يكون الخط أنيقا حد الإبهار، لكن أن يكون واضحا جميلا حد القراءة على الأقل، ولهذا كنت أتوقع مع كثرة الحديث عن رداءة خطوط طلابنا، أن تعود مادة الخط العربي إلى مدارسنا، ويعود ذلك الأسلوب الجميل في تدريسها، بعد أن ذابت ضمن مشروع ما يسمى «شمولية اللغة العربية»، وضعف الاهتمام بها، إن لم تكن قد أهملت كلية في تدريسها، فحينما يطلب المدرس اليوم من الطالب كتابة بحث أو موضوع، فما على الطالب إن وجد وقتا سوى ضغطة زر ليطبع صفحات من الإنترنت، أو يمر على أقرب مكتبة من مكتبات خدمة الطالب، ليقول للبائع هناك: أعطني البحث الفلاني، أما ما يتعلق بالتدريبات في الكتب فقد تحولت إلى أنشطة في المواقع الإلكترونية، ففي غالبها لا تحتاج من الطالب سوى ترميز، ونسخ ولصق، وهكذا ضاعت مهارة الكتابة، ومعها ضاع جمال خط اليد، وظهرت لنا خطوط بالكاد لا تُقرأ، ورحم الله من قال «تعلم قوام الخط يا ذا التأدب... فما الخط إلا زينة المتأدب».