تستخدم إيران قضية فلسطين للدعاية للإسلام الإيراني كهدف لتلميع تصدير الثورة وتبرير القمع وإهدار الإنسان في الداخل الإيراني، في الوقت الذي شاركوا بشكل مباشر في إهدار دماء السوريين

قالت العجوز المكلومة والدة أوميد مير رضا سيافيالتي وهي تكفكف دموعها الحارة بنشيج قهر لا ينتهي: هل هناك أمر مخالف للطبيعة في هذا العالم أكثر من فقدان ابن؟
وأوميد هو المدون الشاب الإيراني من الطبقة المسحوقة، ولأن صعوبات الحياة تتزايد في تدبير شأن حياته اليومي مثل كثير من الإيرانيين فكتب للمرشد علي خامنئي على مدونته رسالة مفتوحة، واصفا نفسه بأنه شاب يحتاج مساعدة للحصول على عمل أو قرض كي يبدأ مشروعا خاصا به، وسأل: هل يستطيع المرشد الأعلى خامنئي مساعدته مثلما يساعد حزب الله اللبناني؟
وكانت النتيجة مكرورة ومعروفة فبعد مدة من الاعتقال الغامض اتصلت السلطات بالأم الثكلى لتقول ابنكم انتحر، وقالوا كلاما -يعتبرونه غاية الإنسانية- بأن الجهات المختصة سمحت بتسليم جثته لهم، وقصة هذا الشاب مثال متوسطة البشاعة مقارنة بما يحدث لكل من يهمس ضد الملالي أو يقول رأيا ولو على مدونة في عتمة الإنترنت، بل تصدر مذكرات اعتقال قضائية ويبقى مكان الاسم فارغا ليملأه الأمن بالاسم الذي يحلو له وتتم حتى مداهمة الحفلات الخاصة لفرض غرامات أو رشى، كما يمنع الأمن الشباب من البقاء في مقهى لأكثر من ساعة، وتحاسب الشرطة الدينية النساء على الضحك في أي مكان عام، وقد أعلنت السلطات في طهران علنا ولمرات عدة منذ ثورة 1979 أن الإسلام يتطلب العدالة العنيفة، وهذا يعني أن النظام يشرع لنفسه ويفتح بابا واسعا لإهدار الإنسان ومصادرة وجوده، فيبيح إعدام القاصرين والشبان والشابات والكتاب والمثقفين وشنقهم على الرافعات بسبب معتقداتهم السياسية، ومن ثم إلقاء جثثهم في مقابر جماعية، بينما يطلق سراح قتلة موالين للنظام لاغتصاب وقتل فتاة في الحادية عشرة بحجة أن عائلة الفتاة لم تدفع تكاليف ومصروفات الإعدام، والملف الإنساني الأسود والشائك والعميق في إيران جزء مما تكمن أهميته للداخل الإيراني في رصد إمكانية التأثير على مسار المستقبل، وهو لا شك المؤمل عليه كحل للقضية الإيرانية وكقاطع لطريق الحل بالقوة الخارجية، وتتنوع طرق التصفيات لمن يقول لا حتى بالقتل في مكان عام لمن يريدون ولو بطريقة الدراجة النارية التي ينطلق منها الرصاص وتلوذ بالاختفاء وتسجل الجريمة ضد مجهول، وعام 2009 كان من أكثر السنين تدفقا للرصاص لصدور المتظاهرين الشباب المعترضين على الحكم الديكتاتوري الذي يوهم البسطاء بوجود انتخابات، بينما اختيار من يرشح نفسه يخضع لشروط لا تنطبق إلا على رجال خامنئي فقط، ومن يخرج بعد انتخابه عن الخط المرسوم من الملالي بشروط ومتطلبات السياسة مثل خاتمي ورفسنجاني فإنه يلقى مصيرهم،وحتى الذين لم يصلوا مثل موسوي وكروبي، بل وطال القمع من عمل مع النظام يوما أو كان جزءا منه، فأكبر غانجي مثلا، وهو أحد رموز صحافة السلطة وقادم من رحمها، اعترض على المرشد بطريقة بوب وود وارد bob woodward فرمي في غياهب سجون الباسيج، وأزاح الملالي آية الله منتظري لاعتراضه على الإعدامات، بل نقلت وكالات الأنباء العالمية خبر اغتيال رفسنجاني 2017 وليست وفاة طبيعية، وعائلته أكدت ذلك والسلطات كونت لجان تحقيق مهمتها إخفاء الحقيقة وليس كشفها، وابنته فايزة كانت سجينة وصودرت حتى مقتنياته الشخصية ووصيته، بمجرد تصريحاته التي رصدت عليه لسنوات عندما تم تصعيد أحمدي نجاد في الانتخابات، حيث قال رفسنجاني إنه يعلم أن أحدا -عنى بذلك المرشد الأعلى- لن يولي اهتماما بتظلماته، ولن يشكو أمره إلا إلى الله، فهو حينها في مواجهة صاحب السلطة المطلقة، وأي رئيس هو منفذ لقرارات المرشد لا غير.
ومحمد خاتمي الرئيس السابق الذي يعتبر إصلاحيا في بعض الأوساط ممنوع هو الآخر من السفر، وتخشى عائلته مصيرا مظلما، حيث اختار الرئيس الحالي روحاني وزير عدل كان يشرف عام 1988 على واحدة من أكبر المجازر ضد الإنسانية في التاريخ الإيراني والمنطقة، ويسوقون للبسطاء شعارات مواجهة الغرب كحجب للواقع مثل عاقبونا سنتأقلم، وكل من أرادوه يعترف فيتم الترهيب للمعتقل بإيذاء أهله وينتهي بمسرحية اعتراف في التلفزيون أو الصحافة، أو يموت تحت التعذيب أو قلة العناية في بلد لا تخلو مدينة مهما كانت صغيرة من متاجر لبيع الأطراف الصناعية، فإيران الثاني عالميا في عدد الألغام الأرضية المتروكة للصدف وبلا قدرة مالية حقيقية لأغلب المتضررين، والبطالة تجاوزت 40%، والفقر تقفز فيه الأرقام، والعملة تسقط كل يوم عن الذي قبله، والملف الملغوم لحقوق الإنسان يتزايد خطورة أمام أعين العالم.
وقد رصدت القاضية الإيرانية قبل الثورة شيرين عبادي حوارا لها مع أحد المتنفذين بأن يسمح بترخيص لمكتب لحقوق الإنسان وقالت له: فقد تحتاجه يوما عندما ينقلب عليك الزمن كغيرك، وفي عام 2003 قبض على صدام حسين في نفس العام الذي فازت فيه شيرين 71 عاما بجائزة نوبل للسلام، عن جهودها من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقالت إنه اتصل بها أحمد جلبي الذي يتقن الفارسية والمقرب جدا من الملالي ويدخل ويخرج إيران سرا وعلنا، وهو السياسي العراقي الذي كان جزءا من العملية الأميركية بإقناعهم بالإطاحة بصدام حسين ليقول لها أن تكون قاضي المحكمة الخاصة لصدام ونظامه، بما أنها قاضية سابقة ومحامية فاعتذرت بأنه يجب أن تكون المحاكمة أمام محكمة دولية، ورصدت شيرين مآسٍ كبرى تفوق الوصف من إهدار الإنسان، فكتبت عشرات المقالات، وألّفت كتبا عن ذلك منها كتابها (إلى أن نصبح أحرارا) وعشرات المقالات، وتحدثت عن مناح كثر بما فيها السطو على حياتها الشخصية وتطليقها من زوجها بقصة ملفقة ومصادرة ميدالية جائزة نوبل، ثم غادرت هربا قبل عشر سنين بعد أن سرب لها قائمة الاغتيالات وفيها اسمها، ونجت أختها من السجن بسبب أن إحدى طالباتها ابنة لأحد المتنفذين، وابنتها هاجرت أوروبا والأخرى إلى أميركا كعشرات الألوف من الإيرانيين.
وطالب آخر اشتهرت قصته يدعى أويد كوكبي، وهو فيزيائي إيراني موهوب برع في مجال الليزر ودرس في أميركا وعاد مرة لزيارة أهله فاعتقلته السلطة واعتبرت دراسته (تعاملا مع دولة معادية) ولا علاقة لأهميته العلمية بسلطة بشعة، مع أن أكثر من ثلاثين من الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء وقعوا على عريضة تطالب بإطلاق سراحه، وحالة كوكبي تبين سبب إفراغ إيران من عقول أبنائها كما القبض على مزدوجي الجنسية لمساومة الغرب ومقايضته.
وكان قد أحل نظام الملالي الشريعة الإسلامية بفهمهم محل القانون العلماني الذي كان موجودا أيام الشاه، لكن الحقيقة أن التعليم في ذات المجال -بحسب عبادي وهي خبيرة في المجال- كانت أقل من نصف ما يمكن تعلمه قبل الثورة في ذات التخصص من حيث النوع والجواب على الاستفهام بأن واضعي المنظومة التعليمية في إيران لم يكونوا يريدون تعليم الطلاب دقائق قانونية الشريعة وفلسفتها وتقليدها، فستصنع متبحرين ومتمرسين واعيين وأعداء محتملين للنظام المتخلف عن الإسلام الواعي نفسه، وفضلت الهدف بتدريس ديني شكلي كثير وإنشائي هزيل حشوي وفي نفس الوقت، وهناك بعيدا ترفع رايات دينية في مكان آخر، حتى إنه مما أثار السخرية والكوميديا السوداء أن أحد قضاة الملالي المشهورين واسمه خرسندي وحين انعقاد محكمة يرأسها لاستجواب مواطنين فاقتربت من المنصة سيدة فأمطرها بوابل من الأسئلة وحاصرها بضرورة الاعتراف لتخفيف الحكم، وبقيت متلعثمة مرعوبة حتى تدخل أحدهم وأوضح له أنها ممرضة وحضرت لقياس ضغط الدم، كنوع من عناية السلطة بجلاديها، بل لم يقف الحال عند إهدار حق الإنسان في رؤية القنوات التلفزيونية مع السيطرة التامة على الإعلام لدرجة التشويش على البث الفضائي بتوجيه التشويش على القمر الصناعي، وعندما فشل بضغط جهات أوروبية فقامت السلطات بوضع محطات متحركة في طول البلاد وعرضها لمنع موجات البث فوق البيوت بلا أي حساب لأثر ذلك على صحة الملايين من البشر مع أنه حديث المجتمع، وكان التعويض بإغراق الإعلام وإشغاله للناس بالمسلسلات التركية، بل حتى قضية المفاعل النووي ليست تتعلق فقط بأهداف عسكرية فحسب في مجتمع يسيره الملالي، بل بخطورة أخرى تمس الناس، حيث يمر في إيران واحد من أهم خطوط الزلازل في العالم في نفس الوقت الذي تدعي إيران الأسباب الاقتصادية للمفاعل، وهي تمتلك واحدا من أكبر مخزونات مهدرة للغاز والطاقة في التاريخ.
وحتى على الهوية همش النظام وسحق دور الأقليات من كرد وبهائيين وعرب وسنّة، مع أن السنة يشكلون أكثر من 10% على الأقل من نسبة السكان حسب أقل الإحصائيات المحلية، في الوقت الذي فقدت فيه إيران كل معاني الكوزموبوليتانية التي كانت قبل ثورة 1979 لتحل مكانها دولة بوليسية ثيوقراطية، وتمت حالات سجن لأكثر من عام لمجرد الانتماء لهوية مذهبية لا غير، وما استعمال قضية فلسطين للدعاية للإسلام الإيراني إلا كهدف لتلميع تصدير الثورة وتبرير القمع وإهدار الإنسان في الداخل الإيراني في الوقت الذي شاركوا بشكل مباشر في إهدار دماء السوريين، ولا حراك لصالح المسلمين الإيقور مثلا أو الشيشان، لأن روسيا والصين داعمتان ثابتتان لها كجزء من لعبة الشطرنج الخاصة بهما مع أميركا.
وهنا يمكن تفسير الرعب في أوساط المثقفين مما آلت إليه أوضاع بعض البلدان في الشرق الأوسط بعد الثورات مخافة المآلات الإيرانية مقارنة بما سبق، وأن قفز على الحقيقة هواة السيرك الثقافي.
وشيرين عبادي تتجول في العالم وتعبره بحثا عن توعيته بحقيقة داخل بلادها، وتحمل تهمة في الداخل عن عمالة الغرب، وفي إحدى المدن الأوروبية استأجرت مكتبا صغيرا فوجدت بجوارها ضيفا إيرانيا جديدا يدعي أنه شركة عابرة للبحار يحسب عليها أنفاسها، وتسأل ذاتها عن قهر الداخل ومطاردة في الخارج قائلة: شيرين.. فأين تذهبين؟