جميع الحركات التي أرادت بناء دولة إسلامية حديثة قد فشلت في النهاية وإن كانت قد وصلت لنجاحات جزئية كالسنوسية والمهدية، وبقيت الحركة السلفية في الجزيرة العربية الوحيدة التي كَتَب الله لها النجاح

في العصر الحديث ومطالِعه نشأ عدد من الجماعات الإسلامية جعلت على رأس أهدافها: إنشاء دولة عصرية على أسس دينية، حركة شاه ولي الله الدهلوي في الهند [1145هـ].
الحركة السنوسية في ليبيا [1259هـ].
الحركة المهدية في السودان [1289هـ]
حركة الإخوان المسلمين في مصر [1346هـ]
جمعية العلماء في الجزائر [1349هـ].
فأما حركة شاه ولي الله الدهلوي فتحقق على يديها العديد من النجاحات منها: التقدم نحو التصحيح العقدي لمسلمي الهند وإحياء علوم الحديث، بل نقل علم الحديث من العواصم العربية إلى الهند وبعثه من هناك، حتى أصبحت بلاد الهند هي محط أنظار طلاب هذا العلم من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وأعظم نجاحاتها كان في بعث روح الجهاد ومقاومة المستعمر البريطاني لدى مسلمي الهند، حتى أصبحت حركات المقاومة المسلحة للاستعمار معظمها من تلك المنتمية لدعوة الشاه الدهلوي أو المتأثرة بها، إلى أن قرر الاستعمار الرحيل عن شبه القارة الهندية سنة 1366هـ ومن ثَمَّ تقسيمها، وإسناد حكم الجزء الأعظم منها إلى البراهميين، بعد أن كانت القارة الهندية قبل الاستعمار البريطاني تحت حكم المسلمين السنة، وهي ما يعرف في التاريخ بدولة المغول في الهند، والتي عملت بريطانيا على إسقاطها بشتى الطرق، وكانت إحداها الاستعانة بملك إيران نادر شاه، الذي استولى على دلهي سنة 1151هـ، كما شجعوا فرق المراهتة والسيخ والزط على الخروج على الدولة، فكان الشر عظيماً محدقاً بمسلمي الهند من كافة الجهات، لذلك قصر الشيخ شاه ولي الله الدهلوي جهوده السياسية على العمل على إيقاظ همم ملوك دولة مغول الهند، ومحاولة إعادة دولتهم إلى ما كانت عليه في عهد الملك الزاهد أورنك زيب [تـ1118هـ]، والذي أدرك الدهلوي أربع سنوات من حياته؛ لكن محاولات الشيخ في إيقاظ همم أولئك الملوك باءت بالفشل فقد كانت الدولة مقبلة على الانهيار، الأمر الذي حمل الشيخ على التعاون مع بعض الوزراء على مكاتبة السلطان أحمد الأبدالي [تـ180هـ] سلطان بلاد الأفغان وحثه على إنقاذ دولة مملكة الهند وإعادة هيبتها، وبالفعل قدم السلطان الأبدالي وقضى على المراهتة في موقعة باني بت وهزم السيخ في البنجاب، ثم غادر الهند وقد تركها مهيأة كي تستعيد العائلة المالكة القوة فيها، إلا أن الترف الشديد والركون إلى الملذات قد فعلا في هذه العائلة فعلهما، حتى لم يعد فيها رجل قادر على تحمل أعباء المرحلة.
وبالمقارنة نجد أن منهج الشيخ الدهلوي في الإحياء العلمي ومحاولة إعادة القوة السياسية والعسكرية للدولة مشابه تماماً لمنهج شيخ الإسلام ابن تيمية [728هـ]في الأمرين معاً، وقد نجح الرجلان في البعث العلمي والعقدي إلا أن الدهلوي لم ينجح في مشروعه السياسي بسبب اعتماده على أسرة سياسية منهارة تماماً، لا توجد فيها شخصية واحدة قادرة على تحمل أعباء العصر، ومع ذلك فقد كان ما حققه من انتصارات على المراهتة والسيخ والزط أمراً عظيماً لو وجد من يستغله من ملوك المغول لإعادة بناء الدولة، وقد نجح الدهلوي أيضاً في إبقاء مشروعه قائماً به خلفاؤه حتى خروج الإنجليز من الهند.
أما الحركة السنوسية فلا شك أنها تأثرت بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب جملة لا تفصيلا، وذلك في أشياء من الإصلاح الديني وفي فكرة تكوين الدولة القائمة بالدين، إلا أنها حرصت على التصوف المقتضي للزهد والإيمان بالجبر واعتزال الدنيا، وبين المُلك المقتضي لإظهار الهيبة والمكانة وعز الدنيا وبين الجهاد المنافي لعقيدة الجبر واعتزال الدنيا؛ والحقيقة: أن الجمع بين هذه المتناقضات كان صعباً جداً، وفي رأيي أنه حال بشكل كبير دون تكوين قاعدة جماهيرية للدولة السنوسية، فبالرغم من تاريخها المضيء في جهاد المحتل الإيطالي إلا أن ذلك لم يحل بينها وبين السقوط على يد ضابط شاب هو معمر القذافي مسلح بدعاية قومية غاية في السخف، ومن أسباب ذلك أنها تخلت بشكل كامل عن ربط المجتمع والجيش الليبي بعقيدتها التي استحقت على أساسها ملك ليبيا.
أما الحركة المهدية في السودان فقد قامت على أساس استثارة الناس وجمعهم على فكرة دجلية وهي كون مؤسس الحركة هو المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وحين مات محمد المهدي [1317هـ] سقطت دعوته، ولم تتمكن هذه الدولة من العيش أكثر من أربعة عشر عاما.
أما حركة الإخوان المسلمين فقد قارب تاريخها المائة عام، وحتى اليوم لم تستطع النجاح في تحقيق أي شيء سوى المحافظة على وجودها جماعة سياسية ذات قاعدة لا يتناسب حجمها مع تاريخها وشعاراتها، حيث يقال إن عدد المنتسبين لها في مصر مكانِ نشأتها لا يتجاوز الخمسة ملايين، وهو عدد بالرغم من ضخامته إلا أنه يعني 5% ?فقط من سكان دولة المنشأ.
ويمكن تلخيص أهم أسباب فشلهم في استبقائهم على العمل وفق أفكار إستراتيجية اختطها الشيخ حسن البنا رحمه الله بعضها أثبتت التجارب خطأه، وبعضها ربما كان مناسباً في الظروف التاريخية والاجتماعية التي عاشها البنا وليست مناسبة لما بعده من عصور؛ فمن ذلك فكرة «نلتقي فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه»، كانت إلى حد كبير مناسبة في الدعوة إلى الله في مجتمع الثلاثينات والأربعينات الميلادية، حيث كان الإلحاد والجهل بالدين والانصراف عنه بالكلية هو سيد الموقف في مصر، وكان الدخول في التفاصيل قد يعيق الدعوة ويعطلها بالكلية؛ لكن الإخوان بعد البنا استمروا على هذا المبدأ لدرجة أنهم نَحَّو التصفية العقدية جانباً من مشاريعهم الدعوية، واقتصروا على اعتبار أمرين لا ثالث لهما: أصل الإسلام وأخلاقه والمشتركات الإنسانية فيه، والهم السياسي.
والاستمرار على هذا المبدأ أفقد الإخوان التميز الديني وجعل النفعية السياسية تنسحب عندهم حتى على أصول الدين وفروعه القطعية.
وتوفي البنا رحمه الله وهو يؤمن بفكرة التقريب بين السنة والشيعة، لكن الجماعة تجاوزت مسألة التقريب ووصلت إلى الوقوف التام مع دولة الملالي وقوفاً لم يستطيعوا العدول عنه حتى في ظل ما نراه من العدوان الإيراني على أهل السنة في العراق وسورية ولبنان واليمن.
وقد كان البنا يكره الحكومات الوراثية حتى لو كانت تقر الشريعة وتعمل بها، وقد تم قتل الإمام يحي إمام اليمن على أيدي المنتسبين إلى البنا فيما يعرف بثورة 17 فبراير، وذلك في حياة البنا وقد تم اغتياله بعد ذلك بعام، أي: في فبراير 1949، مع أن دولة الإمام يحي كانت تحكم بالشريعة وفق المذهب الزيدي الهادوي، لكنهم آثروا الفكر الثوري الذي لم تنل منه اليمن خيرا منذ ذلك التاريخ [1367هـ] وحتى اليوم.
واستمرت الجماعة تحمل هذا الفكر حتى ضد الحكومات الوراثية التي أحسنت لهم وآوتهم وقت التنكيل بهم، فوقفوا مع حزب البعث العراقي ضد السعودية ودول الخليج، بالرغم من إحسان هذه الدول لهم، الأمر الذي جعل الإخوان المسلمين في الكويت ينفصلون عن الاتحاد العالمي للإخوان، مع أن حزب البعث كان حزباً معادياً للدين، وقد قُتِل على يده قادة الإخوان في العراق كالدكتور عبدالعزيز البدري [1389هـ] وهُجر آخرون، إلا أن الإخوان نسوا كل ذلك من أجل عداوتهم الفجة للحكم الوراثي.
ومن أخطائهم التي قعدت بهم عن النجاح عدم قراءتهم للتاريخ وضعف إيمانهم بالمراجعة والتصحيح، والاستبداد الشديد فيما بينهم داخل الجماعة.
أما الجماعة الإسلامية في الجزائر فكانت ذات انتماء سلفي ونجحت نجاحاً عظيماً في الإصلاح العقدي وجمع كلمة الجزائريين وتوحيدهم ضد المستعمر الفرنسي، إلا أن ثمرة هذه الثورة تمت سرقتها منها وتسليم البلاد للأحزاب العلمانية والماركسية عام 1382هـ.
النتيجة من هذا السرد: أن جميع الحركات التي أرادت بناء دولة إسلامية حديثة قد فشلت في النهاية وإن كانت قد وصلت لنجاحات جزئية كالسنوسية والمهدية، وبقيت الحركة السلفية في الجزيرة العربية هي الدعوة الوحيدة التي كَتَب الله لها النجاح التام، فتأسست على مبادئها المملكة العربية السعودية التي نتفيأ ظلالها اليوم.
ومن أسرار نجاح الحركة السلفية في السعودية في تأسيس هذا الكيان السياسي الذي أقبل عمره على بلوغ الثلاثمائة عاما: صحة المنهج والصدق في حمل رسالة الإسلام، لذلك كان النصر حليف هذه الدولة في جميع أطوارها الثلاث، مصداقاً لقوله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).
وأيضا: صيانة المبدأ، مع المرونة التي لا تعود على الأصل بالنقض في حال الاضطرار.
وكذلك الواقعية في تصور القدرات الذاتية، فلم تكن الدولة تؤمن بالعنترية وادعاء القوة والدخول في مشاريع فوق الطاقة.
ومنها: النجاح في تطبيق المبادئ على أرض الواقع الأمر الذي جعلها محل إقبال من الجماهير وإكبار من المسلمين في العالم.
ومنها: الاستفادة المستمرة من التاريخ، فلا تكاد ترى تجربة مرت بها الدعوة والدولة في طورها الأول والثاني إلا وهو محل اعتبار في العمل في طور الدولة الثالث.
أدام الله عزها وأعز بها الإسلام والمسلمين وإن رغمت أنوف.