إشادتك بقصيدة تفعيلية لشاب لا تعرفه، تعني لي انتصاراً عظيما، وكانت كلماتك تكفيني عن أي شيء بعدها، لكنك لم تقف عند تلك الإشادة، وزدت عليها أن بحثت عني لتطلب مني المشاركة في أمسية شعرية

ملحوظة: هذا الرسالة تصور مواقفك مع شاب واحد من عشرات الأدباء الشباب الذين زرعتَ فيهم الثقة والأمل.
يا أبانا:
حين كان نادي أبها الأدبي في مبناه المستأجر (منزل الشيخ محمد النعمي رحمه الله)، كنتُ طالبا في المرحلة الثانوية، أتردد على مكتبة النادي الصغيرة – حينها – لكنها كانت تشبع نهمي إلى أدب منطقة عسير وتاريخها؛ لأنها مختلفة عن مكتبة ثانوية أبها الأولى التي كانت مملوءة بكتبٍ لا تروق لي، وهي الكتب التي علمتُ – بعد عقدين – أنها صودرت من المكتبات المدرسية كلها؛ لخطورتها الفكرية، ومضامينها التكفيرية والحزبية.
في مبنى النادي المستأجر كنتُ أراك، وأنت ملء السمع والبصر، فأنظر إليك كما ينظر مغرم بالأساطير إلى أسطورة حية أمامه، وأذهل ذهولا يشبه ذهول من يرى كائناً فضائياً رأي العين، ثم يتملكني العجب من أحاديثك الدالة على متابعتك الدقيقة للشأن الثقافي وأخباره، وأعجب أكثر من تواضعك وبساطتك وروحك المرحة، وأقول في نفسي: متى يعرفني ابن حميد؟ ومتى أعرض عليه بعض ما أكتبه؟
لم أكن أجرؤ على أن أتحدث إليك، ولم أجرؤ على أن أطلب منك نسخة مجانية من مطبوعات النادي؛ لأن النسخ المجانية كانت للأدباء المعروفين، وأنا – آنذاك – لست أديبا، ولستُ أديبا معروفاً؛ ولذا كنت أخرج من النادي إلى «مكتبة عمر» المجاورة، فأشتري - بما يتوفر من مصروفي - ما أستطيع شراءه من إصدارات النادي، ومن أعداد دورية «بيادر»، ومن بينها مجموعتك القصصية: «شهادة للبيع وقصص أخرى» التي أعجبني فيها اختلافها عن الخطاب السائد حينها، كما لفتتني حرية كاتبها، وجرأته.
في أثناء دراستي الجامعية، بقي السؤال: متى يعرفني ابن حميد؟ ومتى أعرض عليه بعض ما أكتبه؟ إلى أن بدأت إرهاصات الجواب عندما زارت مجموعة من طلاب قسم اللغة العربية نادي أبها الأدبي، يرافقهم الأستاذ الدكتور صالح زيّاد الغامدي الذي كان محاضراً حينها، وانتهزت – بعد حديثك إلينا عن النادي – الفرصة، فأعطيتك نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة من قصيدة تفعيلية كتبتُها، وعنوانها: «مقعد في أبي خيال»، ولفت نظري أنك حين نظرت إليها قلت: جيد يا ولدي أنك تساهم في هذا الشعر الجديد.
ياااااه، ابن حميد لم يوبخني لأنني كتبتُ قصيدة تفعيلية.. نعم، لم يوبخني كما فعل بعض أساتذتي الأفاضل الذين لاموني لوماً شديداً حين علموا أنني أكتب قصائد تفعيلية، إلى الحد الذي اضطررت عنده إلى التكفير عن خطيئتي بنظم قصيدة نونية عمودية، كوفئت عليها بنشرها في العدد التاسع من «بيادر».
إشادتك بقصيدة تفعيلية لشاب لا تعرفه، تعني لي انتصاراً عظيما، وكانت كلماتك تكفيني عن أي شيء بعدها، لكنك لم تقف عند تلك الإشادة، وزدت عليها أن بحثت عني لتطلب مني المشاركة في أمسية شعرية، فلم يستطع سكرتير النادي الوصول إلى هاتفي إلا عن طريق الأستاذ أحمد بشاشة – رحمه الله – الذي هاتفني قائلا: «سكرتير النادي يبغاك»، ليخبرني السكرتير برغبتك في أن أشارك في أمسية شعرية بالنادي الأدبي، ثم حولني إليك، لأسمع منك الثناء والتشجيع وطلب المشاركة.
أخيراً، عرفني ابن حميد، وكانت تلك مفاجأة كبرى بالنسبة إلى شاعر شاب في السنة الثالثة من حياته الجامعية، ولذا وجب علي أن أكون عند حدود ثقتك، مما جعلني أذهب قبل الأمسية إلى الشاعر الأديب علي آل عمر عسيري – رحمه الله – في مكتبه بمحطة تلفزيون أبها، لأعرض عليه القصيدة التي أنوي المشاركة بها في الأمسية، فأبدى إعجابه بها، وصوّر منها نسخةً ليحتفظ بها، وأخبرني أنه هو من سيدير تلك الأمسية، ويا له من خبر يعجز الشعور عن استيعاب الفرحة به.
ومنذ تلك الأمسية، انهالت عليّ أفضالك، فجعلتني عضواً في لجنة النشاط المنبري بالنادي، على الرغم من أنني ما أزال طالباً في المرحلة الجامعية، ولك أن تتخيل حجم فرحة شاب مغرم بالأدب والثقافة، وهو يرى مقترحاته تتحول إلى مناشط حقيقية على منبر نادي أبها الأدبي.
وعلى الفور من تخرجي وتعييني معيداً في كليتي، منحتني الشعور بأنني شريك فاعل في إدارة النادي، ولذا كنتُ أنتهز زمن وجودك الصباحي في مكتبك، لأعرض عليك مقترحاتي المندفعة التي لم تكن تتردد أبداً في تنفيذها، ثم زدتَ على ذلك بأن أصبحت تتصل بي يومياً لتستشيرني في أعمال النادي ومناشطه، أو تكلفني بمهام أراها أكبر مني، حتى إنني حكّمتُ جائزة أبها للثقافة في مجال الشعر، بعد بضعة أشهر من تخرجي، وفوق ذلك، أشركتني في إدارة عشرات المحاضرات والندوات والأمسيات، ورشحتني لمثلها في الأندية الأدبية في جل مناطق المملكة، والأهم من ذلك كله هو: أنك أشعرتني بأنني أصبحتُ صديقاً مقرّباً، وذلك معزز قوي للثقة بالنسبة إلى شاب يتلمس الطريق، ويبحث عن مواطن موثوقة لخطواته الأولى.
وفي أثناء سعادتي بتجاوبك العجيب مع مقترحاتي المجنونة، كلفتني باللجنة الحلم، وهي لجنة الطباعة والنشر التي كانت مجلة «بيادر» ضمن مهامها، فبذلتُ فيها فوق ما أستطيعه، على الرغم من قلة الإمكانات المادية، وعلى الرغم من كثرة «فاكسات» الإنكار والرفض التي لم تكن تلتفت لها، ليقينك بأن المنتج الطباعي في «بيادر»، وفي مطبوعات النادي الأخرى، لم يكن يتجاوز خطوطا حمراء حقيقية، ولم يكن منّا سوى منع اختراق هذه المنتجات الإبداعية والثقافية والبحثية، من أصحاب الأجندات السياسية الخفية المستترين بالدين.
أمضيتُ عشر سنوات أعمل تحت نظرك في لجنة الطباعة والنشر التي كانت تستقطب بين عام وآخر زملاء ممتازين، لكنهم لا يدومون بسبب أعمالهم ومشاريعهم الدراسية، من أمثال: الدكتور محمد الحازمي، والدكتور علي الموسى، والدكتور عبدالله حامد، والدكتور أحمد آل مريع، والأستاذ عبدالله بن محيا، وآخرين؛ وكانت تلك السنوات العشر تجربة ثرة، وهبتني حصيلة معرفية هائلة، وعرّفتْني بكبار أدباء المملكة الذين استكتبتْهم «بيادر»، أو الذين أجريتُ معهم حوارات للمجلة، من أمثال: الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، والأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، والدكتور محمد بن سعد بن حسين رحمه الله، والدكتور منصور الحازمي، والدكتور محمد آل زلفة، والأستاذ عبدالله بن إدريس، والأستاذ خليل الفزيع، والشاعر أحمد الصالح (مسافر)، والدكتور مرزوق بن صنيتان، وغيرهم.
..للرسالة بقية في مقال قادم بإذن الله.