من أجل التأسيس المعرفي يجب تدريب النفس على قراءة موسعة، أوصل رقمها ديورانت إلى خمسة آلاف كتاب مقابل كتابة كتاب جديد لم يسبق إليه أحد، في طريق التراكم المعرفي وتوسيع الذاكرة الإنسانية، كما يسميها القرآن والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب. والرسوخ في العلم يحتاج لثلاث: صبر وتعميق في القراءة على طريقة ابن خلدون الثلاثية، وتنويع في الاطلاع كما يفعل الجسم بإدخال ما لا يقل عن ستة عناصر رئيسية لترميم البدن المواصل ومده بالطاقة، من الآحين والدسم والسكريات والماء والعناصر المعدنية والفيتامينات، وقبل كل شيء الهواء المحمول بعنصر الأوكسجين؛ فيكون الداخل والخارج سبعة عناصر كاملة.
يضاف إلى هذا وقت رحب لا يقل عن عشر إلى عشرين سنة من الكدح المعرفي، وهي بعد سن العشرين حتى يصبح صاحبها في الأربعين؛ فيقول رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وهي سن النبوة والحكمة والاستواء، كما وصف الرب يوسف حين آتاه رشده وأشده، أو موسى وهو يتلقى الألواح، أو النبي العدنان صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي في غار منفرد فلا يصدق، ويكاد يرمي بنفسه من شاهق حتى يأتيه التثبيت.
وفي العادة يجب أن تكون الحصيلة آلاف الكتب والمراجع، ولكن منها مئات قليلة من ذخائر الفكر المعرفي، أحاول بين الحين والآخر عرضها على القارئ، عسى أن تشحذ عنده همة البحث والاطلاع، وربما قد أحاول تناول كل كتاب باختصار لعلنا نفتح به شهية القراءة، ومن هذا الكتب الشيقة اللذيذة أذكر كتاب العبودية المختارة ـ ومؤلفه شاب صغير السن اسمه أتيين دي لابواسييه، وهو كتاب غريب عجيب التركيب عميق التحليل والأثر، قام برصف نجومه وتمام تأليفه شاب من فرنسا في منتصف القرن السادس عشر للميلاد (1562) يشرح فيه آلية الطغيان والاستبداد، وهو يعطينا فكرة أن كل الأمم تدخل هذه الأنفاق المظلمة، قبل أن ترى النور كما وصف أفلاطون ذلك في فكرته حول الكهف، أو كما في محكم التنزيل من سورة الأنعام الآية 122 (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) ووصفة الخلاص عند هذا الشاب النبيه هي رفض الطاعة كما جاء ذلك في آخر سورة العلق (كلا.. لا تطعه واسجد واقترب..) وبذلك فإن وصفة التخلص من الطاغية سهلة جدا أسهل كثيرا مما يتصوره الناس، وما كتبه لابواسييه شجعني مع آخرين أن نكتب كتابا مثيرا بعنوان: (فقد المناعة ضد الاستبداد) وكان ذلك حين اطلعت على كتاب العبودية المختارة فحصل بيني وبين الأستاذ (هشام على حافظ) مراسلات ومحادثات، وقد أعجب بالكتاب جدا، واقترحت عليه عنوان هذا الكتاب الذي نشرته دار نجيب الريس في لبنان، وقد قمت بتحليل نص أتيين لابواسييه في العبودية المختارة مع الاستعانة بكتاب روبرت غرين حول علاقات القوة وبحث دسم نشرته مجلة در شبيجل الألمانية عن علاقات السيطرة والانصياع فكتبت 17 بحثا نشرت قسما منها في جريدة الشرق الأوسط كما في بحث الجنس وعلاقات القوة والمثقف وعلاقات القوة وطبيعة الطغيان.