يطلب مني الأخ الغالي، الدكتور مسفر الموسى، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود طرح واحدة من أخطر القضايا الطبية على الإطلاق، وهي إحجام الأطباء عن إجراء كثير من العمليات الطبية المعقدة واللجوء إلى مجرد العلاج التحفظي أو الدفاعي خوفاً من تهمة الوقوع في هاوية الأخطاء الطبية.
أجبته فوراً بأن للأطباء كامل الحق، فتفسير الخطأ الطبي والجزم بوقوعه أمر معقد جداً، وللأسف الشديد فإن من يقرر وقوع الخطأ الطبي في منظومتنا الصحية هم في العادة أطباء أقل كفاءة من استشاري الصف الطبي الأول. النتيجة النهائية أن آلاف الحالات المرضية لدينا لن تحصل على «البروتوكول» الجراحي المثالي، لأن هاجس الاتهام بالوقوع في الخطأ الطبي يلغي تماماً أكثر ما يصنع الفارق بين طبيب وآخر، وهو روح الابتكار والمغامرة. لكل عملية جراحية مستحدثاتها الطبية مع تقدم أبحاث عالم الطب والجراحة، ولكل عملية أيضاً طرق مختلفة عند المباشرة في العملية. هنا إما أن يهرب الطبيب مفضلاً وصف مجرد العقاقير الوقائية، وإما أن يلجأ إلى إجراء الجراحة بأقل ما يمكن من إجراءات درب السلامة.
ابتدأت هذه الكارثة الطبية في الولايات المتحدة قبل عقود من الزمن تحت ضغط الكابوس الثلاثي «المحامي/ المحكمة/ شركات التأمين» ومن ثم محاكمة الطبيب أمام مخترع ما يسمى بـ«هيئة المحلفين» وهم بضعة عوام ينحازون تلقائياً مع المريض كي يحصل على تعويض مناسب، لأن هؤلاء في الأصل لديهم مشاكلهم الخاصة مع شركات التأمين ومع القطاع الصحي بأكمله، كما هو معروف في الولايات المتحدة. وحتى لو كان من المؤكد أن نسبة قليلة جداً من دعاوى الأخطاء الطبية يثبت صحتها في حين ترفض الأغلبية الساحقة منها، إلا أن بمجرد رفع الدعوى ترفع في المقابل بوليصة التأمين الملزم بها نظاما واشتراطا هناك. حتى هنا سيبقى من المغامرة بمكان أن يعمل أي طبيب دون تأمين ضد الأخطاء الطبية، لأن لدينا كارثة لن أتردد بوصفها «أكثر سذاجة» من مصطلح «هيئة المحلفين»: لدينا إعلام ضاغط يتلقى مجرد شكوى مواطن يقرر بنفسه أنه أو أحد أقاربه وقع ضحية لخطأ طبي، ثم يأخذها هذا الإعلام عنواناً للإثارة أو السبق الصحافي، دون مرور بدورة القرار الطويلة والمعقدة. لا يعلم مثل هذا الإعلام ولا حتى أغلب المجتمع أن السواد الأكبر مما يسمى زوراً بالخطأ الطبي هو نتاج تلقائي طبيعي للآثار الحتمية التي تحدثها الجراحات والعقاقير على المريض، والخلاصة النهائية أننا نسير صوب مستقبل من الطب سيخلو حتماً من الجرأة والابتكار وروح الاستثناء والتميز.