الوطن

ما قدمته المملكة عبر كل العهود من جهود تريد خلالها إراحة الحجيج، وجندت كل جهود أبنائها، كي تكون رحلة الحج لكل حاج، رحلةً ممتعة خالية من المتاعب، دون أن تلحق ذلك منًّا أو أذى

ليست هناك رحلة أعظم في حياة الإنسان المسلم، تشبه رحلته إلى الحج أو تعادلها، لا توجد أبدا على الإطلاق رحلة تماثلها.
إنها رحلة العمر كما يقال إلى خير البقاع، فالحاج حينما يبدأ أولى خطواتها، يكون قد ودّع كل شيء في هذه الدنيا الفانية، وتجّرد من ملذات الحياة ونعيمها التي اعتاد تذوقها من قبل، وتجرّد من لباسه الفاخر، وغادر مسكنه الفخم، ونسي مطعمه ومشربه الهانئ الذي تعوّد عليه في بيته، وفارق أهله وأولاده وأصحابه وخلانه، وكذلك فارق كل ذكرياته، فارق كل شيء تقريبا، واستبدل كل هذا وذاك، بإحرامين أبيضين من القماش لا غير، وأقبل على ربه في طاعة وعبادة، وليس على لسانه سوى الذكر والقرآن الكريم، وكلمات يرددها في ذلك الزمن والمكان، هي خير نداء يردده الحاج خلال تلك الرحلة التي يكون الحاج خلالها قد عزم على أن يتأقلم مع ظروفها، باعتبارها حياة مشاعر وأحاسيس لها طابع مختلف، وهو ينوي التقرب إلى خالقه، مستثمرا كل ساعاتها ودقائقها وأيامها، فهي أيام معدودات لن تطول، سيحاول أن ينسى خلالها كل حياة «الرفاه» التي كان يحياها قبل قدومه إلى المشاعر المقدسة، كل ذلك في سبيل أن يُقبل على ربه بالطاعات والعبادات، وهو يؤدي نسك الحج كما أُمر بها، وعلى الوجه الذي يرضي خالقه، بلا رفث ولا فسوق ولا جدال، وليس على لسانه إلا خير نداء يخرج من حنجرته ملبيا لمن أوجده، وقد اكتسى جسده بالبياض، الذي لا يختلف عمن هم حوله من الحجيج من ضيوف الله الذين تساووا أمام ربهم، غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، لا فرق بينهم إلا بالتقوى، وجميعهم قد راح يلبي الرحمن «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك.. لا شريك لك..لبيك»، وأقصى مُنَى كل حاج أن يفوز مع من ودّع زينة الدنيا، وأقبل على الآخرة «بحج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور»، فيعود إلى أهله ووطنه وقد اغتسل من آثامه.
ورغم أن المسلم خلال أيام الحج المباركة، يعيش حياة مختلفة عن حياته قبلها، إذ إنها حياة يكتنفها بعض المشقة والصعاب، وشيء من التعب، وإن كانت تلك المشقة قد خفّت كثيرا، وغابت معها معاناة السفر إلى الحج، عن أيام الحج في أزمنة مضت، قاساها من سبقه من أجيال، حينما كان يقال «إن السفر قطعة من العذاب»، وما ذلك إلا بفضل من الله تبارك في علاه، ثم بفضل ما قدمته المملكة العربية السعودية عبر كل العهود من جهود، منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- حتى عهد سيدي الملك سلمان بن عبدالعزيز -وفقه الله ورعاه- لخدمة ضيوف الحج، وهي تريد خلالها إراحة الحجيج في حجهم، فلم تدخر جهدا إلا وسخّرت عبره كل طاقاتها، وجنّدت كل جهود أبنائها، كي تكون رحلة الحج لكل حاج، رحلةً ممتعة خالية من المتاعب، دون أن تلحق ذلك مَنًّا أو أذى، لأنها تنطلق في كل ما من شأنه يخدم الإسلام والمسلمين، من منطلقات واجبها الديني، وإنها تؤدي واجبها الذي شرفت به على كل بلاد الدنيا، حينما اختارها الله لخدمة البيت والقيام على شؤون المسجدين وضيوفهما.
أعود إلى رحلة العمر للحج، والحاج يسوق الخطى حثيثة إلى الأرض المقدسة «إلى عرفات الله يا خير زائر»، كما قال شوقي، فرغم التعب والفراق اللذين يلحقانه، إلا أن لهذه الأيام طعما إيمانيا يملأ نفسه، سيظل يشعر به ويحسّه، وستبقى ذكراها عاطرة في ذاكرته، ولن تغادرها، وسيبقى يستذكر لحظة قدومه، وشوق اللقيا يسبقه نحو البقاع المقدسة، وكأن حاله حال القائل «وأكثر ما يكون الشوق يوما... إذا دنت الخيام من الخيام».
ولن ينسى لوعة الوداع وهو يشد مع الركاب حقائب الرحيل، والعودة إلى الأهل والوطن، وهو يصارع حنينه لأيام قضاها في «منى وعرفات ومزدلفة والحرم» وكل المشاعر المقدسة، حنينٌ سيبقى يملأ جنبات قلبه نحوها، والحاج كلما مرت عليه أيام الحج وساعاته، كلما ازداد هذا الشوق والحنين داخله للبقاء لأطول مدة يتمنى لو جاد الزمان بها، وفي داخله أمل بالعودة إليها، إن أمّد الله في عمره، ولسان حاله حال من أنشد وقال «إليك إلهي قد أتيت ملبيا... فبارك إلهي حجتي ودعائيا / قصدتك مضطرا وجئتك باكيا.. وحاشاك ربي أن ترد بكائيا».
ولا تقلُّ حرارة شوقه عند القدوم عن مرارة لحظة وداعه تلك الأماكن الطاهرة، والوجوه المتوضئة، والصحبة الجميلة، وأيام الذكر للخالق الواحد العظيم، وليس هناك ما هو أقسى لحظة وداع في حياة المسلم، كوداعه للبيت والمشاعر المقدسة والمسجدين، مع أنه ساعة ينهي مناسك حجه يفرح فرحا لا تسعه الدنيا على فسحتها، لشعوره أنه قد أدى فريضة الحج.
هذه باختصار رحلة العمر للحاج، والتي تكون مزيجا صادقا بين شوق اللقاء، ولحظات الوداع، وبينهما ولأجلهما دموع وابتسامات ومشاعر تشتاق مكة وتبكيها، وحشود من الأسئلة تتدفق مع رشفات «ماء زمزم»، هل لنا يا صاح من عودة هنا، أو لقاء بعد عامنا هذا؟! لتعود الحناجر التي أتت ملبية، ترفع بالشدو الحزين مع تدفق العبرات فوق الوجنات، من على ظهر راحلة السفر، حداء رحلة العودة.
 وودعت الحجاج بيت إلهها.. وكلهم تجري من الحزن عيناه
 فللَّه كم باك وصاحب حسرة.. يود بأن الله كان توفاه
 فلو تشهد التوديع يوما لبيته.. فإن فراق البيت مر وجدناه
 فما فرقة الأولاد والله إنه.. أمرّ وأدهى ذاك شيء خبرناه
 فمن لم يجرب ليس يعرف قدره.. فجرب تجد تصديق ما ذكرناه
 لقد صدعت أكبادنا وقلوبنا.. لما نحن من مرّ الفراق شربناه
 والله لولا أن نؤمل عودة.. إليه لذقنا الموت حين فجعناه
رحلة الحج التي هي «رحلة العمر» حينما تنقضي أيامها، لن تكون أياما عابرة في حياة الحاج، فعلاوة إلى أنها أيام يؤدي فيها شعائر دينية منظمة ذات خطوات مرتبة، فهي في مراحل تنقلاتها بين مدن المشاعر المقدسة، واختلاط تلك المشاعر والأحاسيس، أشبه ما تكون باختصار بسيط «لرحلة الإنسان ومحطات حياته» بشكل عام، بما تحمله من آثار إيمانية، وروحانية، ومواقف حياتية، عنوانها الإيمان والصبر، يتخللها شيء من التأملات، ويخالطها شيء من المشاعر،عندما يقف الحاج في مواطن كثيرة، أمام خالقه، مستذكرا رحلة البدء، ووجوده على ظهر البسيطة، ومستذكرا رحلة النهاية والعودة إلى خالقه، ووقوفه في ذلك اليوم المهيب، كل ذلك وهو يبث ربه ويناجيه بالأماني، ويشكو إليه شيئا من الآلام، هكذا يقف الحاج أمام ربه في تلك المواطن المقدسة، وهو لا يعلم، أيعود إلى الأماكن نفسها، أم إنها ستكون رحلة الختام، لكن الأمل الذي يبقى عند الحاج، بألا يعود إلى وطنه، إلا وقد أكرم الله وفادته، فلا يعود إلى أهله، بمثل ما قدم من الذنوب والخطايا والآثام، لأن الله الكريم عز وجل، وعد الذين وفدوا إلى بيته، وهم يرجون رضاه، ويطلبون مغفرته، أن يكرمهم إن أحسنوا، ألم يتعلم الحاج من هدي قول الحبيب المصطفى محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، ولله ما أروع الشاعر طاهر الزمخشري في هذا الموقف، وهو يقول:
 رباه كفارتي عن كل معصية...أني أتيت وملء النفس إيمان
 أتيت أطرق بابا كل مجترم... أتاه يرجع عنه وهو جذلان
 قد استضاف كريما لا يمّن بما... يعطي وفي منّه للعبد رضوان
 فاغفر وسامح وتب واصفح... ففي كبدي الإثم يصرخ والإحساس يقظان
 اللهم تقبل من الحجيج حجهم يا رب العالمين.