نجد من المسلمين من يكثر من الاستغفار بهدف محو ذنوبه وسيئاته وكسب الثواب كهدف مطلق من الاستغفار بغض النظر عن التغير في سلوكياته والسمو في أخلاقه
مع بداية شهر الحج من كل عام، يقوم بعض الدعاة بإرسال رسائل دعوية تتحدث عن أهمية الاستغفار من الذنوب، ويقولون «الله سخّر له الاستغفار الذي يعد أمراً عظيماً وباباً واسعاً من أبواب الرحمة فهو باب التوبة واللجوء إلى الله، والاستغفار يمحو الذنوب وترفع به الدرجات وتنفتح به أبواب الرزق»، فهو مجلبة للرزق والصحة والقوة والذرية، و سبب لاستجابة الدعاء.
ويعرّف الفقهاء معنى الاستغفار «سؤال المغفرة، والمغفرة في الأصل: السّتر، ويراد بها التّجاوز عن الذّنب وعدم المؤاخذة به»، ومعنى «أستغفر الله»، أي: طلب العبد مِن ربِّه أن يمحو ذنوبَه ويستر عيوبَه، ويقول الفقهاء حتى يقبل الله عز وجل الاستغفار لا بد من توفر شروط مثل السلامة من الشرك والكفر، والسلامة من كسب الحرام، واليقين باستجابة الله، ويستغفر المسلم بعد كل صلاة ثلاثاً.
ويربط بعض الدعاة ما يصيب الناس من حوادث وكوارث وهموم بكثرة الذنوب والمعاصي والفساد الأخلاقي ويقولون
«إننا أمام الدنيا في ضعف، وأمام الكفار في ضعف، وقد انغمس المسلمون في الشهوات، واشتغلوا بالدنيا.. إن المخرج الصلح مع الله تعالى، ولا بد للمسلمين اليوم من أن يؤبوا إلى ربهم، وأن يصلحوا فيما بينهم وبينه، هذا القحط، والجدب، واحتباس المطر، وانقطاع الغيث، أليس تذكرة من الله؛ ليرجع العباد إليه تائبين مستغفرين؟».
وعلى هذا الأساس نجد من المسلمين من يكثر من الاستغفار بهدف محو ذنوبه وسيئاته وكسب الثواب كهدف مطلق من الاستغفار بغض النظر عن التغير في سلوكياته والسمو في أخلاقه، فأصبح الاستغفار للأسف الشديد عبارة عن عملية حسابية يتم عدها على الأصابع أو آلة العد فقط لنيل الأجر والثواب ومحو الذنوب والسيئات، ثم إكمال المسيرة في نطاق الشر والظلم، فإذا لم يراجع الإنسان أخطاءه وذنوبه التي قد ينتج عنها ظلم أو إيذاء أو اعتداء أو سرقة أو هضم حقوق إنسان أو أكل أموال الناس بالباطل.. فما فائدة «الاستغفار» مع بقاء الشر والظلم والكراهية في أعماق نفس المستغفر؟.
للأسف، فقد تم تفريغ العبادات والأدعية من البعد الأخلاقي والإنساني، فمقاصد العبادات تتلخص في تربية الناس على الأخلاق الفاضلة وتعليمهم المبادئ والقيم الإنسانية، وهنا تكمن - تقوى الله - عزّ وجل، وإن كان الفقه التقليدي يربط الاستغفار بالتوبة والإقلاع عن الذنب وعدم الرجوع إليه، ولكن لا نجد من يدعو إلى تصحيح ما قد ينتج عن هذا الذنب من ظلم أو أكل أموال الناس بالباطل، فهذا هو معنى الاستغفار الحقيقي والرجوع إلى الله.
لقد أصبح البعض من المسلمين يعتقدون أن ما نتج عن ذنوبهم من آثار سلبية على الآخرين يتم محوها بمجرد الاستغفار والتوبة دون أن يفكروا بتصحيح هذه الآثار التي نتجت بسبب أفعالهم، أو أن هذا الاستغفار مجرد وسيلة لقبول الدعاء والاستجابة له أو لجلب الرزق أو الزواج أو كف الأذى عنهم، فأصبح كل عمل أخلاقي يخضع إلى عمليات حسابية تطغى عليها المصلحة الشخصية والأنانية، فأصبح البعض لا يتصدق بهدف التكافل الاجتماعي ومساعدة الناس، ولا يصل الرحم بهدف المحبة للآخرين، ولا يعود المريض من أجل التخفيف عن ألمه وإدخال السرور إلى قلبه، فهنا أصبحت «الأنا» هي الهدف لا غير، والأدهى والأمر من ذلك أن يقوم البعض بأعمال الخير هذه ومع ذلك نجد أخلاقهم سيئة في التعامل مع الآخرين، لأنه في تصورهم الذهني يرون أنهم بهذا العمل قد حصلوا على الأجر والمثوبة من عند الله وكفى، وهم قد نسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: «أتدرون من المفلس؟»، قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار».
معظم ما نراه في الكتب الفقهية والأحكام الشرعية المتعلقة بالاستغفار والتوبة وسائر العبادات لا يثير مكامن الإيمان القلبي بالله تعالى، وبالتالي لا نجد تعاليم الإسلام حية في واقع الناس وسلوكياتهم، ومعلوم أن الفقه الذي لا يستطيع أن يحرر باطن الإنسان من أدران الرذائل ولا يتمكن من تطهير قلبه من عوامل الشر والنفاق، يكون عاجزاً عن تحقيق أهداف العبادات والشريعة الإسلامية ومعرفة الله حق المعرفة، وبالتالي العجز عن تزكية النفس وتطهيرها، ووفقاً لذلك نرى البعض من الناس يعيش الدوغمائية في السلوك والسطحية في التفكير والجفاف في المشاعر والأحاسيس والعدوانية في التعامل مع الآخرين.
ومن هنا يتبين أن الاستغفار ليس هدفاً بحد ذاته، كما يظهر من كتابات بعض الفقهاء، بل طريق إلى تحقيق ذلك الهدف الأسمى، وهو ربط الإنسان بالله والمعنويات والكمالات الأخلاقية، فإذا رأينا أن هذه الوسيلة لا تحقق هذا الهدف، بل تدفع الناس بعيداً عن الدين والأخلاق، أمكن القول إنه تم تفريغ هذه العبادة من البعد الأخلاقي والإنساني، فمقاصد العبادات تتلخص في تربية الناس على الأخلاق الفاضلة وتعليمهم المبادئ والقيم الإنسانية.