«التلفيق»، عبارة عن الجمع بين المذاهب الفقهية المختلفة، في أجزاء الحكم الواحد، بكيفية لم يقل بها أي مذهب من المذاهب

من الخطأ الذي يقع فيه بعض طلاب العلم، الخلط بين مصطلحَيْ «التلفيق»، و«تتبع الرخص»، وبقصد وبدونه، يحرِّمون التيسير على الناس، في المسائل التعبدية، وينصّبون أنفسهم في محل المشرِّع الأسمى.
«التلفيق»، وباختصار، عبارة عن الجمع بين المذاهب الفقهية المختلفة، في أجزاء الحكم الواحد، بكيفية لم يقل بها أي مذهب من المذاهب، وهو من المصطلحات التي ظهرت لدى المتأخرين، بعد أن استقرت المذاهب الفقهية وانتشرت وشاع تقليدها بين الناس.
أما عند المتقدمين، فقد كان مصطلح «تتبع الرخص»، هو المشابه للتلفيق، ومعناه البحث عن أيسر الآراء الفقهية في كل مذهب، والأخذ بها للتخفف من القيام بالتكاليف الشرعية.
هناك وجه شبه بين تتبع الرخص وبين التلفيق، من حيث أن كليهما فيه تقليد وانتقاء لبعض الأمور الفقهية، من عدة مذاهب مختلفة، وفي الوقت نفسه هناك وجه مفارقة بين الأمرين، وهو أن تتبع الرخص يكون في مسائل متفرقة، لا تتركب منها عبادة أو هيئة واحدة، ومثال ذلك أن يأخذ المتعبد برخصة للحنفية في الوضوء، ورخصة للشافعية في الطلاق، ورخصة للمالكية في البيوع، ورخصة للحنابلة في الحج، أما التلفيق فيكون في الأجزاء التي تتركب منها مسألة واحدة، فينتج عنه حكم واحد لم يقل به أحد، مثل القيام بتقليد الحنفية في جواز ترك الترتيب بين أفعال الوضوء، وتقليد الشافعية في جواز الاقتصار على مسح أقل من ربع الرأس، والمسألتان تعدّان جزءًا تتركب منه مسألة واحدة، هي الوضوء.
الخلط الذي قدمتُه بداية المقال، هو أن البعض يظن أن «التلفيق» هو تقليد عدة مذاهب، في مسائل مستقلة، كالأخذ بمذهب الحنفية في أحكام العبادات، ومذهب المالكية في المعاملات، وهذا في الحقيقة، لا يسمى تلفيقا، ومعلوم أن الإنسان العادي
لا يجب عليه الالتزام بمذهب معين، في كل المسائل، ومذهبه مذهب مفتيه، ولا يلزمه الاقتصار على مفت واحد، ويحق له استفتاء أكثر من مفت، ومن أي مذهب، وعليه الأخذ «بما يطمئن إليه قلبه عند اختلاف المفتين»، ويقال عمن فعل ذلك، إنه «انتقل» إلى مذهب آخر، أو «قلّد» مذهبا آخر، في بعض المسائل، بخلاف لو حصلت صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد ممن قلدهم، فهذا يسمى «تلفيقا»، كمثل ما لو جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء، وتقليد الحنابلة في باب الصلاة، وهذا العمل لم يرد في حكمه، كما ذكرت، نصٌ صريح عن الفقهاء المتقدمين، وظهر الكلام حول حكمه لدى المتأخرين، ومنهم من ذهب إلى عدم جوازه مطلقا، ومنهم من أجازه بشرط وجود حاجة داعية إليه، وعدم مخالفة نص «قاطع في دلالته»، وعدم معارضة مقاصد التشريع.
التقليد، حقيقة، تخفيف على الناس، واختلاف الفقهاء رحمة، والحقيقة التي ينبغي أن تكون معلومة للناس، هي أن غالب الفقه، مبني على الظن، ويجوز في حق كل مجتهد أن يصيب، وأن يخطئ، والأخذ ببعض قول المجتهد في مسألة ما، وببعض قول مجتهد آخر في المسألة نفسها ليس خروجا عن الدين، وهو ما يؤكد أن التلفيق في المسألة الواحدة -سواء كانت في العبادات أم في المعاملات- أمر جائز، وأن خروج المفتي عن مذهب إمامه، وإفتائه بمذهب إمام آخر، أيضا جائز، وفي حال تطور العصور والأمور، يعد مطلوبا، وضروريا، فالجمود على رأي واحد، ليس من الفقه في شيء.