من وفقه الله لسلوك طريق الوسطية والاعتدال، الذي أمر الله به ورسوله، فإنه يفهم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، ويعرض ما لديه مما يراه حقا دون تشنج وفوقية

الوسط والعدل مصطلحان شرعيان، بيَّنهما الله في كتابه، وبيَّنهما رسوله، صلى الله عليه وسلم في سنته، قال الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي: عدولا خيارا، وقال تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، فكل من اتبع الكتاب والسنة فهو متبع للمنهج الوسطي المعتدل، ومن خالفهما فهو منحرف عن الوسطية والاعتدال بقدر مخالفته الدليل، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة في الوسطية والاعتدال، والإسلام عدل كله، ليس هناك إسلام معتدل، وإسلام معوج، وأما المسلمون فليسوا سواء، منهم المعتدل ومنهم دون ذلك.
وليس لأحد أن يُطوِّع النصوص لهواه ورأيه وفهمه، ويقول هذه هي الوسطية، هكذا أفهمها من الدليل، وليس فهم غيري، بأولى من فهمي، ليس له ذلك، وإلا لكان الخوارج الذين هم كلاب النار -كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم- معذورين في تشددهم، لأنهم يقولون هكذا نفهم الوسطية من الأدلة، ولكان المرجئة الضُلاّل معذورين في ضلالهم، لأنهم يقولون هكذا نفهم الوسطية، ولكان حزب الإخوان ومن انضم تحت عباءتهم معذورين في تلونهم وجنايتهم على النصوص حسب مصالحهم الحزبية، ولكان أهل اللبرلة والعلمنة والدروشة معذورين في انفلاتهم واتباعهم الشهوات، لأنهم يقولون هكذا نفهم الوسطية.
ومعاذ الله أن يأمرنا الله بالوسط والاعتدال ثم يجعل ذلك غُمَّةً علينا، بلا بيان، فذلك يُنافي قوله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْء)، وكما ترى في الآية بخبر الله أنه بيّن لنا كل شيء، وقال تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، ولما قال المشركون لسلمان الفارسي (عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى الْخِرَاءَة ؟ فقال رضي الله عنه: أجل، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْل...الحديث)، وقد قال أبوذر رضي الله عنه: «لقد توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً».
إذا تقرر ذلك علمنا أن الله بيّن لنا كل شيء، ومن ذلك مفهوم الوسطية والاعتدال، وعلمنا أن النصوص الشرعية تفهم بفهم الصحابة، رضي الله عنهم، فهم أبر الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً، وأصحها فطرة، وأحسنها سريرة، وأصرحها برهانا، حضروا التنزيل، وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأدركوا مراده، والدليل على أن النصوص تُفهم بفهم الصحابة -رضي الله عنهم- قوله تعالى: (ومن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، والمراد بالمؤمنين في الآية: هم صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وهل كان المؤمنون عند نزول هذه الآية الكريمة إلا هم؟ وذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- الفرقة الناجية كما في سنن الترمذي فقال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، فلاحظ أنه قال: «وأصحابي»، وقد ذكر ابن القيم نحوا من تسعة وتسعين دليلا على ذلك.
وعليه: فتحديد معنى الوسطية والاعتدال ليس متروكا لأهواء الناس ورغباتهم، بل الوسطية والاعتدال هو ما أمر الله به ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
وبعض من شغفهم رأي الخوارج ومذهبهم الضال، يُكفِّر أصحاب الذنوب، أو ما يعتبره ذنباً، وإن لم يكن ذنبا، ويرى أن من لم يُتابعه في ذلك التكفير: مخالف للوسطية والاعتدال، وفي المقابل نرى بعض من شغفهم اتباع سبيل أهل الانفلات والشهوات يرى أن من يحافظ على التمسك بالسنة، أو ينكر المنكرات، يراه ليس وسطيا، وليس عندهم في هذا برهان، وإنما هي الوساوس وما تهوى الأنفس.
ومن وفقه الله لسلوك طريق الوسطية والاعتدال، الذي أمر الله به ورسوله، فإنه يفهم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، ويعرض ما لديه مما يراه حقا دون تشنج وفوقية، ولا يُعجب برأيه، وإنما يعرضه على العلماء الراسخين، ويستفيد من توجيهاتهم وملحوظاتهم، ويقبل الحق مهما كان قائله، ويكون حَذِرا من الصلف واللسانة واللدد في الخصومة والجدل العقيم والإعجاب بالنفس، وينهى عن المنكر وفق المنهج النبوي، ولا يتشمت بفاعله، ولا يُعين الشيطان عليه، وإنما ينصحه بعلم ورحمة وهدوء، ولا يُبالغ في تسويد المشهد إذا رأى معصية، لئلا يُرجف في الناس، وكأن هناك حربا شعواء على الدين، وفي الحديث: «من قال هلك الناس فهو أهلكهم»، ولا يُهون من فعل المعاصي والمنكرات في النفوس، ولا يعتذر عن العصاة الذين انقطعت الصلة بينهم وبين الحياء، بل يجعل لكل شيء قدرا، وفق الأدلة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أقام الحد على شارب الخمر، وفي نفس الوقت قال لمن تكلم عليه «لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم».