الوطن يجب أن يُحترم تاريخه وإرثه ومكانته الدينية والعالمية بين الدول، وأن يقدّر ميراثه الضخم من الرجالات والإنجازات، والمواقف الثابتة
لن أُكثر من الكلمات التي نتحدث بها وحولها عن الوطن وحبه هنا، ولا عن الحنين إليه كلما ابتعدنا عن أجوائه وسمائه وترابه، أو أخذتنا مسافات السفر بعيدا.. بعيدا، مثل هذه الأيام عنه، فمهما ابتعدنا عن الوطن نجده يسكن بداخلنا، نجده معنا أينما حللنا أو ارتحلنا، لا يغيب عن بالنا طرفة عين، تلك الحقيقة التي لا يمكن الجدال حولها، ولعلي وأنا أكتب عن الوطن اليوم، أستذكر شيئا من صور الأمس حينما كنّا على مقاعد الدراسة، يوم كان أهم موضوعات نتعلم التحرير وأولها في مادة التعبير، أن نكتب عن حب الوطن، فأتذكر أن الوطن كان الدرس الأول الذي نرسم عنوانه في دفاتر تعبيرنا «و يا سقى الله تلك الأيام التي بين حين وآخر، نستدعي لحظاتها شوقا»، فقد كنّا نجدها فرصة لنعّبر عن حبنا للوطن الذي تشرّبنا حبه الفطري، مع أول بدايات تشكيلنا الحروف والكلمات، حبه الذي اكتسبناه مع حليب أمهاتنا، منذ أن كنّا نحبو خطواتنا الأولى بحثا عن التّعلم والاكتشاف والاستقلالية، ثم تعمّقت محبة الوطن في الشارع، وفي المسجد والحي، وفي أحاديث المجالس مع كبار السن، ومن مواقف الكبار، ثم ترسّخت مفاهيمه، ونحن نستمع للراديو، ونشاهد التلفاز، ونقرأ الصحف، ونحن نخطو نحو تشكيل وعينا المعرفي، وصياغة عقولنا بالثقافة، وأتذكر مع رفاقي، كيف كنّا حينها نتوقف في قراءاتنا، عند مشهد العربي المحب لوطنه، الذي يبكيه فراقه، عندما كنّا نقرأ «أنه كان يحمل حفنة من تراب الوطن عندما يرحل عنه، فكلما هيجّه الحنين إلى مراتع الصبا، وملاعب الطفولة، أخرج تلك الحفنة من التراب ليشمها ثم يعيدها»، فلا عجب أن يقول أحدهم «ذكرت بلادي فاستهلت مدامعي... بشوقي إلى عهد الصبا المتقادم/ حننت إلى أرض بها اخضرّ شاربي...وقُطع عني قبل عقد التمائم»، هكذا كان الوطن يشغل تفكيرهم، ويملأ قلوبهم، والوطن لا يزال هو شغلنا منذ أدركناه، نتعلم حبه من أجل أن نكون سفراء له في الداخل والخارج، من أجل أن نعكس إرثه وتاريخه وثقافته، وسلوك أهله وناسه ومجتمعه، وقادته العظام ورجالاته الأوفياء، نتعلم حبه من أجل أن نفديه بأرواحنا، حينما يكون يوم الفداء من أجله شرفا وبطولة، فلا نامت أعين الجبناء والخونة.
ولذلك فاعذروني فلن أكون دبلوماسيا في لغتي مع أولئك الذين هم -مع الأسف- من أبناء الوطن، حينما يخرقون كل خطوط الأدب واللباقة مع الوطن، ومع مجتمعنا الطيب الشهم النقي بفطرته وإيمانه وطهارته، الذين يأتون بتصرفات رعناء حينما يكونون خارج الوطن، والذين يعبّرون بكلمات سامجة سخيفة في وسائل التواصل الاجتماعي مسيئة للوطن، والذين يصرّحون للفضائيات الأجنبية عن شؤونا الداخلية بصفاقة، والذين يغرّدون بتغريدات ينقصها العقل، ولن تزيد المجتمع إلا احتقانا، جميعها تصرفات تحسب عليهم لا لهم، وضدهم وليس لمصلحتهم، ولن تسيء للوطن، لأن ما يأتون به من تصرفات أو كتابات أو تصريحات أو تغريدات خرقاء، قطعا هي لا تمثل الوطن ولا ناسه، بل هي في النهاية تمثلهم وحدهم، هذا ما يجب أن يفهموه، والمرء ابن بيئته.
ولهذا، فعليهم أن يدركوا أنه أولا وآخرا وطننا، وطن الجميع، وأي وطن نتحدث عنه؟ إنه وطن أشرقت منه الرسالة المحمدية، أرض الحرمين الشريفين، ولن نقبل بمن يسيء له مهما كانت صفته، ورحم الله القائل «الأهل أهلي وأطلال الحمى وطني... وساكنو الربع أترابي وأقراني»، فمن حقنا أن نخشى على صورته وتاريخه، ونحمي إرثه، ونسعى بكل ما أوتينا للمحافظة عليها وعليه، مثلما يهمنا أن نخشى على أمنه واستقراره وسلمه وحمايته، وإن ظن أحدهم أنه «حر» في أن يخرج عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي يمتلك حساباتها، أو على شاشات الفضائيات العربية أو الأجنبية، ليتحدث وفق هواه وطيشه، ويحمل بين طيات كلامه إساءات أو تشويهات لتاريخ الوطن أو للوطن، أو يختزل طموحات أبنائه في قضايا اجتماعية، فيما يعلم أننا تجاوزناها بمراحل، أو يتعامى عمدا عما تحقق من منجزات وطنية على كل الأصعدة، لغاية في نفسه، فهنا لا يجب أن نسكت عليه، ولا نقبل بإساءاته ليقدم مادة دسمة للحاقدين والحاسدين من أعداء الوطن، وعطفا على ذلك فلن نقبل تبريراته «الترقيعية» التي يأتي بها بعد كل تلك الزلات، بل يجب أن كل من يسيء للوطن أن يحاسب، كي يكون درسا لكل متجاوز، فالوطن يجب أن يُحترم تاريخه وإرثه ومكانته الدينية والعالمية بين الدول، وأن يقدّر ميراثه الضخم من الرجالات والإنجازات، والمواقف الثابتة، وأن يتعلم أولئك وغيرهم، في أن هذا الوطن قامت أركانه على قواعد راسخة من الكتاب والسنة، ولن يحيد عنهما، وأن يعلم أن قادة الوطن دائما يذكّرون بذلك، وأن أجهزة الدولة ستؤدي واجبها كعادتها لحماية الوطن بلا تهاون، ومن لم يعلم بهذه الصفحات الناصعة من تاريخ الوطن فعليه أن يعود إلى مقاعد الدراسة، ليتعلم تاريخ وطنه، كي يكون على قدر كبير من المكانة والمسؤولية بحجم الوطن الكبير، الذي يبني أسس مستقبله ورؤيته 2030، دون أن يتخلى أو يمس بالثوابت الدينية أو الوطنية أو المجتمعية، وعليه أن يلتزم بمسؤولياته، كي يمثل الوطن خير تمثيل في الداخل والخارج، ويكون سفيرا مثاليا يعكس أخلاقياته وثقافته وتاريخه، وأن يعي معنى أن المجتمع يتغير، وأن التغيير الذي يحدث اليوم هو تغيير نحو الأفضل، التغيير الإيجابي بما يحقق رفاه المجتمع، وأنه لا يعني التحرر من قيود الدين والعادات والتقاليد، أو التمرد على ثوابت المجتمع.
وقبل الختام، ما رأي وزارة التعليم في أن تعيد لمدارسنا «الأسابيع الوطنية» التي كانت، وقد افتقدناها من سنوات، فحينما كنّا ونحن صغار بمدارسنا كنّا نتعلم حب الوطن بطريقة عملية، فنخرج برفقة مدرّسينا، نغرس الأشجار ونعتني بها، ونقوم بتنظيف شوارع الأحياء المجاورة لمدارسنا، وننظّف مساجدها، ليتها تعود يا وزارتنا.