قررنا تجربة السفر برا وزيارة عدة ولايات بدلا من البقاء في مكان واحد طوال الإجازة، أعجبتني الفكرة خاصة أن درجة الحرارة في ولاية تكساس قد وصلت 100 فهرنهايت! وضعنا خطة التحرك وقمنا بحجز غرف في مدن متفرقة لنضمن فترات استراحة ما بين ساعات السفر الطويلة ثم انطلقنا، بالنسبة لي كان السفر برا فرصة كبيرة لأقابل السكان في المدن والقرى الصغيرة التي مررنا بها، قد عشت سنوات مع مواطني هذه البلاد خلال دراستي، لكن احتكاكي كان جله مع أهالي المدن الكبيرة، وحينها كان معظمهم من سكان البلاد القدامى، لكن اليوم وخلال مروري بهذه المدن وجدت أن عدد المهاجرين الجدد قد تضاعف بشكل لا يفوت على أي زائر! وتوقعت أنه في القرى سوف يكون الأمر مختلفا، لكن كنت مخطئة، فالمد كان قد وصل إلى تلك المناطق أيضا!
كان السفر طويلا ومرهقا، لكنه كان شيقا ومثيرا، تنقلنا ما بين الطبيعة وتحدثنا مع الناس بكل أريحية وكأن الوقت كان يمر ببطء ومن تتحدث إليه ليس مسرعا ما بين المواصلات أو الوظائف، كان لديهم الوقت للتحدث والاسترسال في الشرح والإجابة عن الأسئلة، وأنا كثيرة الأسئلة، ما إن يجيب أحدهم عن الأول حتى أسارع بالثاني والثالث والرابع، وتتواتر الإجابات تباعا دون تذمر أو استغراب، بل كأن المتحدث وجدها فرصة أن هناك من يهتم بما لديه من معلومات!
البائع يشرح لك عن بضاعته خاصة التي صنعت يدويا، وإن لها قصة، فذلك يجعل الأمر أكثر إثارة وتشويقا، وحتى حين كنت أطلب منهم أن أصور حديثهم، وجدت ترحيبا ويعاد سرد الموضوع لعدسة جوالي دون تذمر، بل وبكل ترحيب مع ابتسامة فخر وسعادة، والطالب الموظف في موقع سياحي لا يستغرب أسئلتي عن اختياره لهذه الوظيفة وبماذا ستفيده، والشاب الذي بادرني بالحديث عن قضية يعمل مع فريقه على التوعية عنها، لم يكن يبحث عن دعم مالي أو مساندة أو مشاركة، فقط إذن تصغي وتقدر قيمة الأرض وما وهبنا الله من نعم من خلال الطبيعة، ولكن أكثر ما شد انتباهي وتطلب مني ضبط وبرودة أعصاب هو حواري مع الشابة التي كانت تحاول جذبي بطريقة أصبحت أعرفها جيدا لأتوقف وأشتري أنبوبا فيه مادة تعمل كالسحر على بشرتي لتجعلها أكثر سحرا وجاذبية! بشرتي أنا؟! كيف تجرؤ على المحاولة؟! وتذكرت أنه أسلوب يستخدم مع الجميع لجذب الزبونة بغض النظر عن نوع البشرة أو حالتها، سألتني عن بلدي فأجبتها: «السعودية» ولَم تعرفها، والغريب في الأمر ليس هنا، بل إنني حين سألتها وأنت؟ أجابت «إسرائيل»! وكأن الكلمة اخترقت أذنا لتخرج من الأخرى! فأعدت السؤال وعقلي يحلل بسرعة «لا بد أنني سمعت خطأ! فلا يوجد حرف إلغاء في لكنتها»! ولكنها أعادت نفس الكلمة! ثم أكملت عملها وهي تدهن تحت عيني اليسار بمادتها السحرية، ودون أن يرف لي جفن قررت أن أشبع فضولي فسألت: وماذا تفعلين هنا؟ طالبة؟ أجابت: «كلا فقط أعمل»، ومنذ متى أنت هنا؟ أجابت وهي منهمكة في عملها، معتقدة أنني لا بد صيدة ثمينة، فسعر الأنبوب كان حوالي 900 دولار (دولار ينطح دولار)، «أنا هنا منذ عدة أشهر فقط كنت قبلها في كندا ولم تعجبني فانتقلت إلى هنا، والآن انظري إلى الفرق بين العين اليسرى والأخرى»! ونظرت ولم أجد ذاك الفرق الكبير فالعملية نفسية، ربما أشرح لكم فيما بعد في مقالة أخرى كيف تتم وكيف يتم تدريبهم على إحداث التأثير، أقصد بائعي هذه النوعية من المنتجات، «ضعيه تحت العين اليمنى أيضا لأتمكن من الحكم»، كنت أريد مزيدا من الوقت لأصل لما أريده! وهنا تحركت وأحضرت الأنبوب وضغطت عليه لتخرج فقط نقطة صغيرة، وكأنها تخرج نقطة من ذهب! ما علينا، المهم الوقت الإضافي، وهذا ما حصلت عليه! وبكل هدوء سألت: «ولماذا لا تعملين في بلدك»؟ أجابت وهي تمرر المادة تحت جفني بضربات خفيفة من أصبع يدها، «لأنني لا أريد أن أبقى هناك، هنا العمل أفضل»، «وأسرتك» سألت، «نعم اقتربت من الهدف» قلت في نفسي، «يستطيعون زيارتي متى ما أرادوا»! وهذا يعني أنك لا تنوين العودة؟!، «لا أريد ذلك»! وقلت في نفسي «يحجزون أرضا وهي أصلا ليست لهم»! وهنا كأنها تذكرت شيئا فنظرت إليّ وسألت «وأين تقع بلدك»؟ «على البحر الأحمر» بصوت مسموع، لكن في نفسي بعد أن رفعت حاجب الاستغراب قلت: «وهذا أيضا لا تعرفينه؟!»، لكن لدهشتي واستغرابي وجدت أن تعابير وجهها تدل على عدم التعرف على جغرافية المكان! فأضفت «قريبة من العقبة» «صمتت!»، قريبة من الأردن، سورية، مصر، أخيرا لمعت عيناها وقالت «أعرفهم»! يا إلهي على أي كوكب كانت تعيش هذه الفتاة! إما أنها بالغباء بحيث أرسلتها أسرتها للخارج حتى لا تحرجهم بين الأهل والمعارف أو أنها هاربة من تجنيد إجباري، وبالتأكيد لن يجبروها على العودة لأنها بدلا من الهجوم على بيوت الفلسطينيين قد تهاجم بيوت جماعتها في المستعمرات، فالواضح أنها لا تعرف «طيخها من بطيخها»! وتريد أن تستغبيني وتبيعني أنبوب «عقلة الأصبع» ذا التسعمائة دولار «دولار ينطح دولار»! ومن أجل ماذا؟ بشرتي أنا؟ كيف تجرؤ!