التخلص من هذا «الغباء الثقافي» يتم عن طريق الاهتمام بالبحث في الأشكال الثقافية التي يختفي فيها الموروث الثقافي
يؤكد المفكر الفرنسي فيليب ديريبيان في كتابه «التفكير في تنوع العالم» أن كلمة «ثقافة» من أهم المفردات المستخدمة في العالم لكنها متطورة ومتعددة الاستخدامات في الوقت ذاته، فاستخدامها يتراوح ما بين الدلالة على مجموعة من القيم لجماعة من الأفراد قد يشكّلون شعباً من الشعوب والدلالة على نمط من التفكير يقوم على المعرفة الواسعة والتحليل والنقد على أساس أن الثقافة هي البعد المعرفي والفكري لجوانب معينة في الحياة.
وتوحي كلمة «ثقافة» بأسلوب حياة نتج عن رابط معرفي وإنساني بين فرد وجماعة من الأفراد يشبهونه، يقوم كل منهم بدوره في الحياة بنقل ما اكتسبه من معرفة وفكر إلى الأجيال اللاحقة مثلما اكتسبه من الأجيال التي سبقته؛ إلا أن الثقافة قد انزاحت عن كونها فقط مجرد قيم مشتركة لمجموعة من الناس وجدوا أجدادهم وأنفسهم عليها، حيث إن حصر الثقافة بهذا المفهوم سوف ينجم عنه إنتاج مجموعة من «الأغبياء الثقافيين» لا يستطيعون التوفيق بين ما ورثوه عن أسلافهم وما يتطلبه نمط حياتهم من تغيير جذري وقدرة على الإبداع.
والتخلص من هذا «الغباء الثقافي» يتم عن طريق تكريس الاهتمام بالبحث في الأشكال الثقافية التي يختفي فيها الموروث الثقافي أو يصبح فيها هامشيا، كما هو الحال بين مجموعة من الأفراد متعددي الثقافات الذين يعملون في ورشة أو مستشفى أو نادٍ رياضي؛ حيث يستمر مفهوم «الثقافة» من خلال اقترانه بصورة الجماعة ذات القيم المشتركة، ولكنه يستمر بشكل جديد نظرا لتحول الجوانب المشتركة إلى شيء محلي وهشّ خاضع لصُدف حياة مجموعة من الأفراد لا يشكلون إلا جزءا يسيرا وعابرا من مجموعهم العام.
ويشير (ديريبيان) هنا إلى ملاحظة مهمة تتعلق بالتناقض ما بين «الإنسان» في العلوم الاجتماعية و«الإنسان» في الأعمال الأدبية، فالناس الذين كتب عنهم عمالقة الأدب العالمي مثل شكسبير وسرفانتيس ودوستويفسكي وغيرهم كانوا محاطين بالأشباح والشياطين والأحلام التي لا يمكن تحقيقها، بينما في العلوم الإنسانية لا يوجد أشباح وشياطين عدا ما يتم بحثه في الأساطير لدى بعض المجتمعات، كما لو أن الجزء الغامض في الإنسان لا يتحكم إلا في الجانب الشخصي له.
ولكن بمجرد الانتباه إلى هذا الجزء الغامض تكون العلوم الاجتماعية «معاقة» عن فهم الأحداث المأساوية في تاريخ البشرية: المجازر الكبرى، والمذابح، عمليات التصفية التي يقترفها مواطنون طيبون يخدمون البيروقراطية، فضلا عن عدم فهم عدد لا يحصى من الأحداث في العلاقات الاجتماعية، وهذا ما يعدّ عائقا رغم الاهتمام بالنظريات الكبرى في ظل تصور يرى أنه لا وجود لمجتمع، إنما مجموعة من الأفراد يعيدون صياغة العالم في كل لحظة، وتصور آخر معارض له يرى أن استقلال الفرد عن الجماعة هو مجرد وهم.
ومن جانب آخر اعتُبر إنشاء الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنظمة التجارة العالمية، وتوحيد الكيانات السياسية- كالاتحاد الأوروبي- تمهيدا لتوحيد العالم في ثقافة واحدة ومن ثم في حكومة واحدة تحكم العالم بعد زمن بعيد في ظل العولمة التي سوف تؤدي بالتدريج إلى اختفاء الأفكار التي تعود لعصور غابرة، أما البلدان التي لن تستطع مواكبة هذا الاتجاه العالمي فإن المسؤولية تقع على شعوبها حيث يظل المهمشون مهمشين فتلك ثقافتهم ولن يتخلصوا منها، بينما يتفاءل متفائلون بأن الإنسانية سائرة نحو مستقبل مشرق من التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان يُقضى فيه على الاستبداد ولو بقوة السلاح باعتبار أن السيطرة هي مصدر الشر في هذا العالم.