ظهرت موجة الحداثة، وانخدع بها بعض الناس، لتوهمهم أن العبارات والمقالات كلما كانت أشد تعقيدا، فإنها بزعمهم دليل على الثقافة
1 -
(إن لم..فمن؟) هو عنوان كتاب للأمير خالد الفيصل، أهداه إليّ الأخ إبراهيم الخرعان، فبادرت بقراءته مباشرة من أوله إلى آخره، لما أعلمه عن مؤلفه الأمير خالد الفيصل وفقه الله من عمقٍ علمي، وذكاء فطري، واعتدالٍ في المنهج، ورؤى سديدة، ويظهر لي من خلال قراءتي للكتاب أنه يعني بالعنوان: (إن لم.. فمن؟) أي: إن لم يكن السعودي هو المؤهل لحمل رسالة الخير، فمَن يكون إذاً، ولا يعني في هذا أن غير السعودي غير مؤهل لحمل رسالة الخير، كلا، فالخير موجود في كل مكان (قد علم كل أناس مشربهم)، وإنما مراده كما فهمت: أن أولى الناس بحمل رسالة الإسلام والخير هم السعوديون، لكون الله شرَّفهم بأن وطنهم هو مهبط الوحي، ومنبع الإسلام، وهم أحفاد الصحابة والسلف الصالح الذين حملوا مشعل النور والهداية في الآفاق، وقيادتهم السعودية تنشر الإسلام والسلام، وتدعم الخير والتقدم ونفع الناس في أرجاء المعمورة، فالإمكانات للسعوديين متوفرة، والموانع منتفية، ولهذا فهم أولى الناس بحمل رسالة الإسلام والسلام، والوسطية والاعتدال.
2 -
في الكتاب ما ذكره إبراهيم السليمان رئيس ديوان النائب العام للملك من أنه سمع الملك عبدالعزيز رحمه الله يسأل الأمير خالد الفيصل، وكان الأمير آنذاك طفلاً يبلغ سبع سنوات أو نحوها، وكان بصحبة والده وخاله، سأله الملك عبدالعزيز فقال: يا خالد: أأنت الأمير، أم أبوك، أم خالك؟ فأجابه الأمير خالد بذكاء فطري، وذهنٍ متوقد، رغم صغر سنه: (حضرتَ ولا عاد لغيرك سنع)، أي بحضورك لا مجال لأحد، فضحك الملك المؤسس معجبا بحفيده، وسُر الوالد الفيصل العظيم، وأُعجب الخال الكريم، فإذا كانت هذه الإجابة الحكيمة لطفلٍ لم يتجاوز سبع سنوات أو نحوها، فما بالك بإجاباته وفهمه الآن، وهو في السبعين أطال الله عمره على طاعته، بعد أن عركته الحياة والتجارب والمسؤوليات، وعانى كثيرا في سبيل العلم والبحث عن الحقيقة، ليصل إلى الجواب دون سؤال، لا سيما أن ثقافة المجتمع أحيانا لا تشجع على السؤال؟
وقد كان العلماء الراسخون لا يجيبون طلابهم النابهين مباشرة، بل يطالبونهم بالبحث أولا، لأن هذا يصقل شخصية الطالب، ثم بعد ذلك لا مانع من السؤال، فالسؤال هو مفتاح العلم، ولذلك قال الأمير: (لم أندم على شيء في حياتي أكثر من ندمي على عدم السؤال)، وفي نظري أن معاناة الأمير في استنباط الحقيقة دون سؤال - وإن كانت مرهقة - إلا أنها صنعت مفكرا استثنائيا، وقائدا مبدعا، وشخصية موسوعية.
-3
ظهرت موجة الحداثة، وانخدع بها بعض الناس، لتوهمهم أن العبارات والمقالات كلما كانت أشد تعقيدا، وتتضمن كلاما لا وزن له ولا معنى، فإن هذا بزعمهم دليل على الثقافة، فوقف الأمير خالد الفيصل في وجه هذا التيار، وبيَّن خلله وعواره بأسلوبٍ علمي، ثم بعد فترة ظهر تيار (الصحوة) وكان له امتدادات مع حزب الإخوان في الخارج، وله تكتلات وحزبيات واصطفافات، وكان يزايد على تدين الناس، ويثير الفتن والشغب عند كل قرار لا يعجبهم، فوقف الأمير كذلك مبينا أنه لا حزبية في الإسلام، وأن الدين أسمى من أن يُتَخذ لمآرب وجماعات وأحزاب، وأننا على دين صحيح، وأننا في هذه البلاد نحن أنصار الدين الحق منذ مئات السنين ولا نزال وسنظل إن شاء الله، ولسنا في غفوة، فلا مجال للمزايدة، ناقشَهم الأمير بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، في وقتٍ لم يتنبه لتجاوزاتهم كثير من أهل العلم فضلا عن غيرهم، وقد صبر سموه على مهاجمة هذين التيارين له، كما يصبر الطبيب على المريض، يقول الأمير وفقه الله: (يبدو أنني والتحدي على موعد في كل مكان، فبعد الحداثة في الرياض، ها أنذا والصحوة في أبها، أدق ناقوس الخطر... وهكذا بعد مواجهتي وحيدا مشروع الحداثة، وجدت نفسي وحيداً أيضا أواجه الصحوة.. لقد هوجمت من أهل الغلو والتكفير، وكذا من أهل الانحلال والتغريب، والحمد لله على كل حال)، لقد كان الأمير وفقه الله ينفي عن الدين: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وقد تبيَّن الآن بعد أن حصحص الحق، تبيَّن لكثيرٍ منهم أهمية نصح الأمير لهم، وشفقته عليهم، ولكنهم لم يستفيقوا إلا بعد أن تبين الصبح، فمثل الأمير ومثلهم ما قاله دريد بن الصمة عن قومه: أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد.
حفظ الله الأمير خالد الفيصل، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ونفع به البلاد والعباد.