الدرس المهم في تجربة شكري هو أن متعة القراءة ودهشتها قد سبقت فن الكتابة لديه، ثم أصبحت جزءا من نشاطه اليومي

حين أصدر الروائي الراحل محمد شكري باكورة ثلاثيته الروائية المثيرة «الخبز الحافي» عام 1982-بعد عشر سنوات على كتابته لها- وضع في عتبات الكتاب عبارة تؤكد على أنها «سيرة ذاتية روائية»، ورغم ما يقال عنها أنها تنتمي إلى «الواقعية القذرة» في الأدب إلا أن فيها درسا مهما لا ينسى.
تطرّق محمد شكري إلى مرحلة طفولته المتأخرة وبداية مراهقته وسلطة أبيه العنيف القاتل والسكّير والمقامر الذي لم يرسله إلى المدرسة ليتعلم، وبلغت علاقته به آفاق الكراهية بعد قتل الأب ابنه الأصغر، وكانت هذه الحادثة المؤلمة بداية رحلة الانحراف التي بدأت باستغلال الأب لابنه مادياً، بعثوره له على عمل في مقهى شعبي من السادسة صباحاً حتى منتصف الليل، وحين يقبض أجرته الزهيدة يأخذها الأب.
وفي مرحلة البلوغ في بيئة فقيرة جاهلة مكبوتة تقترن رحلة التشرد والضياع بالغرق في اللذة دون الانتباه إلى ما تفعله الحياة فيه، فما كان يكسبه من بيع الخضار والفواكه ينفقه على ملذاته، وحين تنتهي لديه كل فرص العمل يلجأ إلى حمل حقائب المسافرين وسرقتهم في محطات القطار.
وحين تلاحقه صورة الأب العنيف المتسلط يلجأ إلى خياله الخصب للتعبير عن ذاته: «يضربني ويلعنني جهراً، أضربه وألعنه في خيالي»! وفي هذا الخيال الخصب كان يأكل ويشبع إلى درجة أن أباه ذات مرة ضربه بعنف لأنه لم يأكل الطعام فدخل في غيبوبة!
للسلطة الأبوية غير السوية دور رئيس في تشكيل الشخصية المشوهة للابن، وكان لجوؤه إلى الخيال هو الحل الوحيد للانتقام منها: «صرت أفكر: إذا كان تمنيت له أن يموت قبل الأوان فهو أبي. أكره أيضا الناس الذين يشبهون أبي. في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته! لم يبقَ لي إلا أن أقتله في الواقع». الحل الوحيد لنهاية هذا البؤس كان الهرب، وبدء رحلة جديدة من التشرد في الشوارع والأزقة الضيقة وصولا إلى العراك والرذيلة والسجن.
في السجن يتعرّف للمرة الأولى من خلال رفيقه إلى أبي القاسم الشابّي وشِعره، وبعد خروجه صار يشتري المجلات العربية المخصصة لنشر أخبار الممثلين ليتفرج على صورهم المثيرة، وفي المقهى الشعبي وجد من يقرأ له بعض ما ينشر في الصحف والمجلات الصادرة عن المشرق العربي، وفي خضم جهله وغيرته من أنصاف المتعلمين أصرّ ذات يوم على تعلم مبادئ القراءة والكتابة، فاشترى كتاباً لتعليم اللغة العربية، ثم توسط له شقيق صاحبه لدى مدير مدرسة لكي يدرس بها، رغم أن عمره قد بلغ عشرين عاماً، فكان تعلمه القراءة والكتابة سبيلاً فيما بعد إلى ولوجه عالم الأدب والتعبير عن ذاته وأفكاره وخياله الخصب ذاك.
إن الدرس المهم في تجربة شكري هو أن متعة القراءة ودهشتها قد سبقت فن الكتابة لديه، ثم أصبحت جزءا من نشاطه اليومي حتى بعد أن أصبح كاتبا مشهورا في العالم العربي، والعالم يقرأ بعدة لغات (الفرنسية والإسبانية والعربية)، حيث تعافى من إدمان الكحول بإدمانه على القراءة، إلى درجة أنه كان يقرأ أي شيء تقع عليه عيناه من لافتات الشوارع والمحلات إلى الأوراق الساقطة على الأرض، وكأنه كان يحاول تعويض العشرين سنة الأولى من عمره التي قضاها مشرداً ضائعاً هائماً في ملذاته دون أن يدرك لذة القراءة.