مشكلتنا أننا نعمم فكرة التفرد والاختلاف حتى على الأعمال الأدبية والفنية، وهذه المتلازمة هي من تصدمنا عندما نكتشف أننا بشر مثلنا مثل الشعوب الأخرى

نستطيع القول إن مسلسل العاصوف هو العمل الفني الأبرز بين الأعمال المعروضة في شهر رمضان المبارك، والبروز ليس في قوة النص، وإنما في جراءة الطرح ولأسبقية في طرح قضايا اجتماعية تعود إلى فترة ماضية من تاريخ المجتمع السعودي السبعينيات الميلادية، وتحديدا منطقة الوسط ممثلة في عاصمة البلاد التي شهدت البذرة الأولى لتشكل فكرا جديدا مغايرا لما كان عليه الناس من وسطية واعتدال في ممارسة حياتهم، وخلال فترة وجيزة تنامى هذا الفكر ليعم جميع المناطق، وإن اختلفت قوة السطوة من منطقة لأخرى تبعا لوضع المنطقة ودرجة قربها من المكان الحاضن لتلك المتغيرات السياسية والدينية، والتي فرضت سيطرتها بفعل بساطة المجتمع والحرية المتاحة لروادها للتحرك ونشر أفكارهم، وإن كانت الأحداث المعالجة دراميا في مسلسل العاصوف حقيقية أو مزيفة، كما يدعي بعض منتقدي العمل، غير أنها في الواقع لم تخرج عن قصص وحكايا مجتمع إنساني عاش الحياة بتفاصيلها، وهذه التفاصيل تشمل الخير والشر، السيئ والحسن، تبعا لما جبلت عليه النفس البشرية، والتي وجد فيها الاستقامة وكذلك الميلان عن خط الفضيلة منذ الخلق الأول للبشرية، ولم توجد منزهة تمثل الخير والتقوى فقط، حتى المجتمعات البسيطة جدا وغير المعقدة في تفاصيل حياتها يوجد فيها من يرتكب سلوكا يعتبر في مفهوم الجماعة مشينا أو مرفوضا دينيا واجتماعيا.
وبالعودة إلى أحداث العاصوف والمصاغة بداية كنص مقروء قبل أن تتم معالجته دراميا، فإنه يقترب كثيرا من النص الروائي بحكم توفر بعض أركان العمل الروائي، وكما يؤكد النقاد دائما أن العمل الروائي الذي يكتب عن حياة مجموعة إنسانية في حقبة ما لا يكتمل إلا إذا دخل في عمق الشخصيات وكشف ما تخفيه من ممارسات أو حتى أفكار، لا تجرأ على المجاهرة بها لأنها، كما قلنا، تدخل في باب المحظورات والعيب وحتى الحرام، والأعمال الروائية التي حققت نجاحا وتحول بعضها إلى أفلام سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية كتبت الواقع بتجرد، وهناك أعمال روائية تناولت صور الحياة في نفس المكان وربما الزمان الذي دارت حوله أحداث العاصوف، وفيها الكثير من تلك الصور، على سبيل المثال ثلاثية تركي الحمد الروائية، ورواية شارع الأعشى لبدرية البشر، وكذلك شارع العطايف لعبدالله بن بخيت، هذا الأعمال وغيرها صورت ملامح الناس وحياتهم، وهذا أمر طبيعي، فلن تكتب عن حقبة ما أو مجتمع ما، ما لم تحاول أن تقترب من واقعة، وما شاهدناه في العاصوف ليس إلا لمحات بسيطة لما كان عليه الناس في تلك الفترة.
وهكذا هي الأعمال الأدبية من روايات وقصص وحكايا، تلتقط من ذاكرة الزمن الأبرز لترويه، ونحن بدورنا نلتقطها بشغف المفتون بماضيه، ولو أن ذلك الماضي قدم لنا منمقا براقا خاليا من العيوب والأحداث التي تخلق الصراعات والاختلافات المثيرة، والتي تستحق أن تروى لما وقفنا عنده وتسابقنا لمشاهدته بشغف، وهذا حالنا مع المسلسل ننتقد، غير أن نسبة المشاهدة كبيرة، وهذا واضح من خلال الآراء المطروحة في وسائل التواصل، سواء كانت بالإيجاب أو السلب، مشكلتنا أننا نعمم فكرة التفرد والاختلاف حتى على الأعمال الأدبية والفنية، وهذه المتلازمة هي من تصدمنا عندما نكتشف أننا بشر مثلنا مثل الشعوب الأخرى، وهذه الصدمة تتضح في مواقفنا المتزمتة من هذه الأعمال عندما تقدمنا كما نحن في الحقيقة،
لا نختلف أننا مجتمع محافظ ومتدين بالفطرة، لكن المجتمع يتكون من أفراد مختلفين في درجات الالتزام بالسلوك الجمعي، كذلك ما يدخل على حياة الناس من تغير وتطور يولد مفاهيم جديدة لدى البعض، ويدخلهم في صدامات إما مع محيط الأسرة والأصدقاء أو المجتمع الأكبر بمؤسساته الرقابية، وهذه الأحداث، وما أفرزته من تغيرات على تفكير الأفراد رصده لنا مسلسل العاصوف في أبطال العمل المختلفين في شخصياتهم وأفكارهم، وحتى طريقة تعاطيهم مع التغيرات من حولهم، منهم من مرت عليه طبيعية دون أن تكون له ردة فعل، وآخرون تفاعلوا معها حد التزمت، وفئة ثالثة دخلتها للتجريب وتقبلت ما حدث له فيها من صدمات، وهذه هي الشخصيات غير المعقدة التي لا تخاف الجديد أو تتحفظ ضده، وهنا لا نقول إن مسلسل العاصوف كان الأفضل في الأعمال الدرامية السعودية، لكنه الأقرب للمشاهد والأقدر على الاقتراب، وإلى حد كبير من طبيعة المجتمع في فترة معينة لم يسبق وأن عرضت على الشاشة بهذه التفاصيل التي لا يعرفها الكثير من جيل اليوم، خصوصا وماضينا يحضر كصور للعمران والحرف وطريقة كسب العيش، لكن كفكر وحياة واقعية مغيب إلا فيما ندر.