الاحتقان السياسي والقومي والمذهبي الراهن داخل جغرافيا إيران، قد يصل في نهاية المطاف إلى مرحلة عنق الزجاجة، وقد تعود المظاهرات التي شهدتها مناطق إيران نهاية العام الماضي بوتيرة أشد

يواجه النظام الإيراني عدة تحديات داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية وفكرية واجتماعية، وأصبحت هذه المشكلات بمثابة كرة الثلج التي يكبر حجمها يوما تلو آخر. بعيدا عن إشكالات النظام مع محيطة الإقليمي وعلاقاته المتوترة مع معظم دول الجوار العربي وغير العربي، والضغوط الدولية على طهران بسبب برنامجها النووي ومشروع تطوير الصواريخ الباليستية ودعم الإرهاب وإشعال الطائفية، بعيدا عن ذلك كله، يواجه النظام إشكالا داخليا ربما أشد خطرا عليه من أي مهدِّد خارجي.
تنتشر المظاهرات والمسيرات والوقفات الاحتجاجية في عموم الجغرافيا الإيرانية، وَفْقًا لبعض الإحصاءات التي صدرت مؤخرا، فخلال الفترة بين 11 و17 مايو 2018 نفَّذ العمال في إيران 22 مظاهرة، والطلاب 7 مظاهرات، والمثقفون 25 مظاهرة، والمنهوبة أموالهم 8 مظاهرات، وذوو السجناء مظاهرتين، كما وُزِّعَت 49 مظاهرة أخرى على عدة شرائح من المجتمع الإيراني. لكن لعلّ الإشكال الأضخم الذي لا يزال النظام يحاول السيطرة عليه -بعيدا عن وسائل الإعلام الأجنبية- هي تلك الأحداث التي تشهدها مدينة كازرون وسط إيران. فعلى مدى أسابيع تشهد هذه المدينة كثيرا من المظاهرات والمصادمات مع رجال الأمن، ذهب ضحيتها كثير من المواطنين، كما حدثت اشتباكات شديدة العنف مع بعض رجال الأمن، علاوة على إحراق بعض البنوك والمؤسسات الحكومية في المدينة. الدافع إلى هذه المظاهرات هو مشروع يعتزم النظام تنفيذه، يتمحور حول فصل منطقتي «جنار شاهيجان» و«كوهمره نودان» عن كازرون، وتأسيس مدينة «كوه جنار»، وهو مشروع ينظر إليه أهالي المنطقة على أنه إذا ما نُفّذ فسيفصل عن مدينة كازرون مناطق مهمة وتاريخية تشكِّل هُوِيَّتها. وقد رفع المحتجون كثيرا من الشعارات المناهضة للنظام الإيراني، أهمها «العدو هنا أخطَؤُوا بقولهم أميركا»، في إشارة إلى سخطهم على الملالي وكشف إستراتيجية النظام القائمة على تصدير المشكلات.
إن الخطر الحقيقي الذي يواجه النظام الإيراني، يتمثل في التركيبة الفسيفسائية التي تشكِّل الخريطة الإيرانية، فقد ظلَّت قضية التقسيمات الإدارية في إيران مصدرا للأزمات منذ ثورة 1979، إذ وقعت احتجاجات كثيرة بسببها أدّت إلى اشتباكات عنيفة بين المحتجين وقوات الأمن في بعض هذه الاحتجاجات، مثل الاشتباكات العنيفة التي وقعت في مدينتَي قزوين وزنجان عام 1994، بسبب النقاشات حول تحويل مدينة قزوين إلى محافظة وفصلها عن محافظة زنجان، واحتجاجات مدينة سبزوار على خلفية الوعد الذي أطلقه عبدالواحد موسوي لاري، وزير الداخلية في حكومة محمد خاتمي، بشأن تحويل مديرية بجنورد إلى محافظة، ونزلت الجماهير إلى الشوارع في مدينة سبزوار في 2001 إثر تصريحات موسوي لاري، واقتلعوا خطوط سكك الحديد، وهاجموا المباني الحكومية، وكذلك مشروع تقسيم محافظة خراسان إلى 5 محافظات مما قاد إلى اشتباكات واحتجاجات عنيفة في مدن هذه المحافظة، وأيضا مشروع تقسيم محافظة خراسان إلى محافظتين شمالية وجنوبية، كما تشهد مدينتا نيشابور وسبزوار احتجاجات مستمرة على عدم تحويلهما إلى محافظات أسوة بغيرهما، ويمكن أيضا الإشارة إلى الاشتباكات التي حدثت بسبب استحداث مديريّة «غراش» جنوب محافظة فارس.
ومن الصراعات والتوترات المستمرة في هذا الخصوص أيضا، الجدل حول التقسيمات الإدارية لمحافظة سمنان، إذ يرى ساكنو مدينة شاهرود أن مدينتهم يجب أن تكون عاصمة المحافظة بدلا من مدينة سمنان، إضافة إلى ذلك توجد إشكالات عدة في مناطق عربستان «الأحواز» وبلوشستان وغيرها.
صحيح أن النظام كان يسعى دائما إلى خلق إشكالات وتوترات بين القبائل والمناطق والمحافظات، على المياه أو الحدود الجغرافية للمحافظات أو المشاريع التنموية التي تقوم على سلب حقّ محافظة ما ومنحها لأخرى، ونحو ذلك، بهدف شغلهم عن المطالب الرئيسية وتوحُّد الجبهة الداخلية ضدّ النظام ذاته، إلا أن تلك السياسة بمثابة سيف ذي حدَّين، وقد تخرج الأوضاع عن سيطرة النظام، وتتجاوز حدود خلق التوازن الداخلي إلى ما هو أكبر من ذلك، الأمر الذي قد يقود في نهاية المطاف إلى تفكُّك التركيبة العرقية الفسيفسائية الراهنة.
إن الاحتقان السياسي والقومي والمذهبي الراهن داخل جغرافيا إيران، قد يصل في نهاية المطاف إلى مرحلة عنق الزجاجة، وقد تعود المظاهرات التي شهدتها مناطق إيران نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي بوتيرة أشدّ ومساحة جغرافية أوسع، لا سيما مع فقدان المجتمع الأمل في حدوث أي تغيير جوهري على المستوى المعيشي، في ظل انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي مع إيران، وبالتالي عودة العقوبات الدولية على البلاد.
من هنا، يجد النظام نفسه في موقف شديد الصعوبة أمام المطالب الشعبية الداخلية، وقد يلجأ إلى افتعال قضية خارجية جديدة تشغل الداخل عن مطالبه، وتمنح النظام فرصة للقمع بقسوة بمبررات الخيانة والارتباط بالخارج، ونحو ذلك.
في كل الأحوال، قد تؤدي سياسة الرقص على الحافّة بالنظام الإيراني إلى النهاية.