من الصعب أن تبقى ثابتا في مكانك وتنعزل عن الجميع، لأن هناك نسبة اختلافات بينك وبين من حولك

كيف أستطيع أن أجعلك صديقي وأنا أختلف معك بنسبة 90%؟ كيف أستطيع توظيف الـ10% المتبقية لمصلحتي؟
اتفاقك المطلق معي ومع جارك وقريبك ومديرك في العمل ودولتك والدول والشعوب الأخرى أمر في غاية الروعة والجمال، لأنه سيشتت الخلافات ويجمع القلوب ويمحي الحروب، لكن ماذا لو لم يحدث هذا التوافق المطلق؟
منذ طفولتنا على الرسوم المتحركة، وبجانب الثقافة الموروثة، غُذيت عقولنا بشخصيات كرتونية تكون إما خيرا أو شرا، مع استبعاد احتمالية أن هذا الشر قد يحمل خيرا، وأن هذا الخير قد يحمل شرا في مواطن أخرى.
قبل بضعة أيام وخلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للولايات المتحدة الأميركية كانت لغة الجسد بين الرئيس الفرنسي والرئيس الأميركي دونالد ترمب ملاحظة. العديد من القبلات والأحضان وتماسك الأيدي طوال الاستقبال وإلقاء الكلمة. الغريب هنا أن تظهر تلك التصرفات في وقت خلافات يعيشه البلدان والقارتان.
الجميل هنا أن انسحاب ترمب من اتفاق باريس العالمي للمناخ، وتضييق الخناق على التجارة البحرية الأوروبية، والخلاف بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا بشأن الاتفاق الإيراني النووي، وبقاء القوات الأميركية في سورية لم يخل بتماسك يدي الرئيسين.
قد يدعي البعض بأنها تمثيلية من ماكرون لتليين موقف أميركا بما يتصالح مع الشأن الفرنسي والأوروبي، وذلك دُلل بخطاب ماكرون أمام الكونجرس الأميركي. لا نقول بأن ذلك مستحيل، لكنه مستعبد من رؤساء لا تحكمهم العاطفة والمواقف الشخصية، بل تحكمهم مصالح بلادهم ودستورها.
حينما أقول إن ذلك من ثقافة شعب فإن تلك ليست بالحادثة الأولى التي تكون بين أميركا وفرنسا. فما كان بين جيلبير دو لافاييت وجورج واشنطن من اختلافات تحولت فيما بعد لإحدى أكبر قصص الصداقة التي عرفها القرن الثامن عشر.
فكيف أستطيع أن أجعلك صديقي رغم الخلافات؟ ذلك يتحقق بالإيمان بالمنطقة الرمادية. وهي منطقة يمتزج فيها سواد وبياض أفكارنا ومعتقداتنا وأهدافنا مع بعض، لتكون تحتوي على ما يجعلنا متوافقين بالتالي صديقين. حجم هذه المنطقة يختلف بين البشر والدول، لكنها مهما كانت هذه المنطقة صغيرة ستحدث فرقا لو استغلت بالطريقة الصحيحة. فبالرغم من خلافك الكبير مع من تراه عدوك سأكون حليفك في المنطقة الرمادية.
البحث عن المثالية والتطابق المطلق أمر مرهق وشبه مستحيل، فقد تصبح لترى من كان عدوك بالأمس حليفك اليوم، ومن كان حليفك أصبح عدوك. وهذا أمر طبيعي، فالمواقف والقناعات والمصالح تتغير، لكن من الصعب أن تبقى ثابتا في مكانك وتنعزل عن الجميع، لأن هناك نسبة اختلافات بينك وبين من حولك. تطبيق مفهوم الأبيض والأسود «يا معنا يا ضدنا» في أرض الواقع أمر من محض الخيال. الأصح أن تحاول أخذ ما يتناسب معك وتناقش وتنبذ ما يتعارض معك.