الأسبوع الماضي كانت مداولات الإعلامي المرموق داوود الشريان على قناة العربية موضع اهتمام .
الأسبوع الماضي كانت مداولات الإعلامي المرموق داوود الشريان على قناة العربية موضع اهتمام ومتابعة لفيف من الزملاء الذين تستهويهم البرامج الجادة في زمن راعف بالغثاء الكثير.
أثار الشريان جملة من الأسئلة عن العلاقات اليمنية الخليجية واستوقف ضيوفه أمام موضوع انضمام اليمن إلى دول مجلس التعاون، ونكأ برفق شديد جرحاً قديماً يتصل بموقف الحكومة اليمنية من غزو العراق لدولة وشعب الكويت.. وفي ثنايا الحلقة الحوارية حامت طائفة من الهموم المشتركة بدءاًً بالعمالة ومتطلبات المواءمة بين الأوضاع الاقتصادية وتحسس اليمنيين من الطروحات الخاصة بتأهيل البلد الأقل تنمية وانعكاس ذلك على دول الجوار وانتهاء بملف الاستثمار والأمن وحزمة التعهدات المالية المقدمة من الدول المانحة وفي طليعتها المملكة العربية السعودية وشقيقاتها في مجلس التعاون.
سفير اليمن البارع الصديق محمد علي محسن الأحول نافح بحياء بالغ عن مصالح بلاده وإن كان موقفه الرسمي قد أثر على سجيته في التدافع والاسترسال فجاءت ردوده مقتضبة وتناولاته في أضيق الحدود، مما يؤكد حاجة مثل هذه البرامج إلى متداخلين غير حكوميين يستطيعون مواجهة المشكلات العالقة ونقد الظواهر السلبية المتواترة وملامسة الحقائق المؤلمة بشفافية ووضوح.
لا أحسبني أطيق الانقطاع عن حوارات الشريان وطائفة أخرى من برامج (العربية) نظراً للأثر الذي استرعى اهتمامي في حلقته الأخيرة عن اليمن ومجلس التعاون ووددت من مثل هذه الإطلالات الفضائية ألا تكون في موضع الجبل الذي يلد فأراً، إذ يؤخذ على القنوات الفضائية العربية مشاركتها في تمييع القضايا الاستراتيجية والتعامل معها على غرار (الزواج العرفي) بينما تكون الحاجة ملحة للتروي وتحديد الهدف من إثارة هذه القضية أو تلك والتركيز على الجوانب الغائبة عن مجتمعاتنا وعرض المسكوت عنه من الملفات التي تمس مصالح الشعوب ومساعدة الأنظمة السياسية على تطبيع علاقاتها بمواطنيها وتشجيعها على التخلص من كوابيس الارتياب فيما بينها..
لهذا أحاول الاستدراك بملخص لوجهة نظر إزاء العلاقات اليمنية الخليجية التي أجدها أحوج ما تكون لرؤية عميقة تتجاوز القشور إلى الجذور وتتعدى ربت الأكتاف إلى استكناه الدخائل..
صحيح، أن تحديات طارئة أنضجت الرغبة المتبادلة في بحث خيار التماثل على طريق الاندماج، ولكن الأصح أن شعوب شبه الجزيرة العربية تمضي نحو تلك الخيارات عبر طرق شائكة طمرتها رمال وتبدلات أحوال واكتنفتها خيبات أمل وصالت على جنباتها جراحات غائرة وذكريات قاتمة الضلال..
وبما علق في الذهن من حكايات يوشيها الأسى فإن دوائر مختلفة في اليمن ودول مجلس التعاون أغرقت الأذهان بمفاهيم نظرية تكرس التصورات الانطباعية المتقاطعة بين شعوبها كما أسهمت هذه الدوائر في تسويق خلافاتها إلى عامة الناس.. وخلال مراحل زمنية سابقة كانت النظرة الدونية سائدة تجاه فقراء شبه الجزيرة وهؤلاء بدورهم نهلوا من مشارب سياسية وفكرية تزدري الثراء النفطي وتستهجن حالة الاستعلاء المنبعثة عن تفاوت الموارد الاقتصادية.
هل من جديد أضيفه إلى رأيي العلني المتشدد في إدانة غزو نظام صدام للكويت، يومئذ وأنا مثل غيري ممن يعجزون عن تبرير العدوان.. كنت أعبر عن قناعاتي وأواجه ـ بصعوبة بالغة ـ مداً أيدلوجيا يكابد مشاعر الانكسار العربي ويبحث عن أسطورة البطل القومي الفاتح الذي يضل الطريق إلى القدس فيلتهم دولة كاملة السيادة ويشرد شعباً شقيقاً.
أَدري أن موقف اليمن وقرارها لم يكن بيد الرئيس صالح وحده.. يومها كان القرار بدوافع أيدلوجية أكثر منه وطنياً محضاً..
إن دول الخليج سبقتنا لصناعة الأسطورة الواهمة عن صدام حسين.. الأسطورة الواهمة تصنع في مكان وتحسب تبعاتها على مكان آخر.. وإلا فمن أجل من ضحى اليمنيون بمئات الشباب من المقاتلين على جبهات الفاو.. ألم يكن القرار اليمني يومئذ قد اتخذ بدوافع قومية خليجية..
فلم نتعاور عن الجزء الرئيس من الصورة ونكتفي بتسليط الضوء على الجزء الآخر رغم أن موقف صنعاء لم يكن سبباً بل نتيجة لمقدمات ليست لليمن يد فيها.
إننا لا ننكر على القيادة اليمنية والخليجية حكمتها في تقدير وإدارة مصالح شعوبها ولا يخالجنا شك بحرصها على إذابة جليد الماضي.. وما تتمتع به من قدرة على تجسيد تطلعات الجماهير التي تتوق لبناء جسور الثقة بين المؤسسات ذات العلاقة المباشرة بتنمية مجالات التعاون المشترك لكنا في المقابل ندعو إلى اجتراح طريق مختلف يأخذ في الاعتبار حق الأجيال في تشكيل لوحة المستقبل على أرضية حوارية تسمح بنشوء حالة انسجام ثقافي يجعل المعرفة بالحقائق في طليعة الأولويات المتاحة بعيداً عن مكائد السياسيين وحسابات العقد المزمنة..
نوع من الجراح يمكن نزع ضماداتها بعد مشاهدتها وقد التأمت..
لكننا ما نلبث أن نراها تعود لأسوأ حالاتها لأدنى الأسباب.. وفي تقديرنا أن الجراح التي تشهدها علاقات الدول وتنال من مصالح الشعوب تتطلب قدراً من الجرأة وتقتضي الإقدام وتدخل مبضع الطبيب لتطهيرها أولاً وقبل الحديث عن أي ضمادات إسعافية أو مضادات حيوية لاحقه..
يدعوني إلى هكذا اجتهاد واقع حافل بالحقائق والوقائع التي تؤكد بأن علاقات اليمن مع دول مجلس التعاون لم تعد إلى سابق عهدها منذ حرب الخليج الثانية.. فعلام الإنكار.. ولم لا نبدأ مكاشفات الذات والآخر. أم أن ذلك لن يكون متاحاً طالما ظلت القوى الدولية بحاجة لمواجع قابلة للاستثمار والتطويع.. إنها قضيه ذات شجون وهو حديث متعدد المتون.. ولذلك أعود إليه لاحقاً.