مفهوم التزكية يحتاج بالفعل لمراجعة وإقرار نظام إلكتروني خاص، تتم فيه معرفة الشاهد وسوابقه إن وجدت، ومعرفة حتى الحالة الائتمانية وأدائه حقوق الآخرين المالية
يمارس في محاكمنا عرف قديم لا أعرف كيف بدأ أصلا! يطلب القاضي من أحد الأطراف المتنازعين شاهدا، ويطلب فوق ذلك مزكيا، هدف التزكية هنا هو تزكية الشاهد على أنه عدل، وبعضهم يتلقف المزكي من مكان قريب من المحكمة دون معرفة حقيقية بالشاهد، وهنا تنتفي التزكية، حيث يطلب القاضي فقط بطاقة أحواله، ويسأله هل يعرف الشاهد، ويجيب المزكي بنعم وهنا تنتهي القصة، معرفة عدل الشاهد تقتضي معرفته الحقيقية ولمدة طويلة، وهذا قد لا يتحقق في كل القضايا، فهل نوقف ونعطل كل القضايا لتحقق هذا الشرط فقط؟
الرسول الكريم -صلوات الله عليه- لم يستخدم التزكية فلماذا نحن نستخدمها؟ إذا هي آراء فقهاء، فهي إذا آراء بشر تؤخذ وترد بناء على الاجتهاد، تاريخيا ربما للتزكية علاقة بالقبلية، وبالأخص بالناس المجهولين بين العرب والذين لم يكونوا تحت حكم قبيلة ما، والذين انضموا للإسلام حديثا حينذاك، وأصبحوا جزءا من المجتمع، ولا أحد يعرف عاداتهم وطباعهم التي بالطبع تختلف عما عهده العرب، وبالتالي ربما يسهل استخدام هؤلاء لأغراض غير قانونية، فلا أحد يعرفهم، ولم يكن هناك نظام ما لتتبعهم.
التزكية لم تعد تصلح لزمننا هذا، حيث الحداثة القانونية طغت على كل شيء، من شروط الشهادة العدل قوله تعالى: «وأشهدوا ذوي العدل منكم»، حيث إنه عرفا إذا لم يعرف القاضي الشاهد وعدالته طلب مزكيا له، الدولة ومفاهيمها والقانون تطوروا جدا، وتوسعوا لدرجة أن القاضي قد لا يتعامل في حياته مع قضية يعرف فيها عدالة الشهود نظرا لعدد السكان الهائل، هنا نقطة قانونية دقيقة، ففي الشريعة قد لا يشكل مشكلة حكم القاضي بعلمه الشخصي ومعرفته بالشهود، لكن في القانون معرفة القاضي للشاهد تسبب تعارض مصالح، بحيث يعزل القاضي عن القضية، فمتى ما عرف القاضي الأطراف والشهود يعد هذا تعارض مصالح يضر بمسار القضية، فالقاضي لا يستطيع فصل عاطفته ومعرفته بأحدهم تماما لدى الحكم، بل أحيانا المحامون البارعون يبحثون في تاريخ القاضي وقضاياه وحتى حياته الشخصية، لمحاولة أن ينظر قاض معين قضيتهم، لأنه ربما عرف بتساهله فيها، ويظهر تعارض المصالح أيضا بطريقة أخرى، فلو حصل لقاض ما حادث سير نتج عنه وفاة زوجته فإنه المفترض ألا يحكم في قضية مماثلة، لأن حكمه هنا مشوب بعيب عاطفي بتعرضه لتجربة مماثلة، قد تجعل حكمه في هذه القضية متشددا جدا على غير العادة، خصوصا لدينا عندما تكون القوانين الموضوعية الجنائية غير مكتوبة، ويحدد فيها القاضي العقوبة بكل حرية، ولا ننسى لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص صريح، التزكية إذا لم تلغ لدواعي المصلحة العامة، ربما تحتاج لتحديث ينقلها للقرن الواحد والعشرين، وإلى مستوى الرؤية الوطنية 2030 وتطلعاتها الاقتصادية والاجتماعية، والتي لا بد أن تنعكس على الحالة العدلية السعودية، والتي تحتاج لإصلاح شامل، فلا تكفى الأتمتة، ونحتاج مبضعا جراحا! لماذا لا تكون التزكية نظاما إلكترونيا؟ إذا أراد القاضي التثبت من عدالة الشاهد أوعز إلى سكرتارية المحكمة، وبحثوا في نظام إلكتروني خاص بالتزكية عن سلامة وعدالة الشاهد من حيث السجل الجنائي، وارتكابه جريمة مخلة بالشرف، وربما سابقة شهادة زور، عدالة الشاهد كذلك ليست من مظهره ودينه، فالشاهد مخبر وليس مظهرا، ولا تستطيع أن تعرف عدالة الشاهد من مجرد النظر إليه، ويؤكد هذا رأي المذهب الحنبلي في المزكي: «لا يُقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة».
يجب علينا في خلال هذه الفترة التصحيحية على مستوى الدولة من خطط اقتصادية وتغييرات اجتماعية أن ينعكس ذلك على القضاء ويتغير تبعا لحاجة المجتمع، فمفهوم التزكية بهذا الأسلوب يحتاج بالفعل لمراجعة وإقرار نظام إلكتروني خاص، يتم فيه معرفة الشاهد وسوابقه إن وجدت، ومعرفة حتى الحالة الائتمانية وأدائه حقوق الآخرين المالية، هذه التزكية قد تسببت في تأخير قضايا كثيرة.