مساحات العطاء الخضراء تحتاج إلى عقل وفكر متحرر من قيود النمطية والتقليد والبيروقراطية البغيضة، يفترض أن يكون المعلم نبراسا بين طلابه ينثر عليهم العلم والحكمة دون خوف أو وجل، ودون أن يخشى شبح الفقر أو هاجس الحساب.
اعتاد صاحب حقل نعناع أن يردد قوانين الحقل على مسمع البستاني الذي يعمل لديه، وكانت درجة الالتزام عالية من البستاني، لكن الإنتاج لم يكن مرضيا، ولم يتجاوز متوسط البيع اليومي 50 ريالا في أحسن الأحوال.
فقرر الرجل أن يغير طريقته، لم يعد يردد عليه قوانين الحقل، وأصبح يكتفي بقوله: أنت تعرف كل شيء، أريد أن يكون إنتاجنا مئة ريال. أجاب البستاني:
لك ذلك بشرط أن تكف عن إملاء قوانينك عليّ، لنتفق على الخطوط العريضة فقط، وقت العمل وكمية الماء واحترام الحقول المجاورة وطريقة التسويق.
من ذلك الحين وصاحب الحقل لا يعرف من الألوان -بعد الأخضر- سوى الأحمر!
أمران يحيلان كل الألوان الزاهية والباردة والنارية إلى الرمادي القاتم، أحدهما خارجي والآخر داخلي.
أولهما فرض طرائق التدريس على المعلم، وتقييم أدائه بناء على استمارات وبنود وشروط هو لم يشارك في صياغتها، وبالتالي هو غير مقتنع بها كلها أو بعضها، ويدخل تحته جميع العوامل الخارجية التي تزعزع المعلم وتشتت تفكيره وتمتص عافيته -كما عبرت إحدى المعلمات- ومنها نظرة المجتمع المحيط والمجتمع الكبير للمعلم، والرسائل المقصودة وغير المقصودة التي تبثها الأسرة ووسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي عن المعلم، ويتأثر بها الطالب قطعا، فتشوش صورة المعلم وتتسبب في اهتزازها أو تكون صورته في ذهن الطالب ضبابية أو ربما مشوهة أو غير مكتملة، فعندما تخرج القيادات الكبيرة لانتقاد المعلم في وسائل الإعلام أيا ما كانت الأسباب والمبررات والاعتذارات بعد ذلك - وتتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي التي يعتبر الطلاب عمودها الفقري، فلن ينتظر أحد أن تبقى صورة المعلم زاهية الألوان في نظر الطالب كما كانت ذات يوم، ولا ننتظر أن تحتفظ تلك الصورة بإطارها الذهبي الجميل، هذا إن بقي هناك صورة من الأصل.
كل هذه الأمور الخارجية وغيرها تجعل إنتاج المعلم -البستاني- لا يتجاوز اللون الأخضر، وهو قادر على قطف اللون الأحمر بكل اقتدار، علما أن من يقطف اللون الأحمر قادر -بطبيعة الحال- على الوصول للون الأزرق في طريقه إلى عبور فضاء الألوان باتجاه الغيوم الفاتنة البيضاء أو الممطرة السوداء.
الأمر الآخر يعود للمعلم نفسه عندما يجرد مهنة التعليم من قدسيتها، ويحيلها من رسالة إلى وظيفة، ومن مهمة إنسانية عظيمة إلى دوام بغيض، وتتبدل الحصة من روضة من رياض الجنة تحفها الملائكة إلى زنزانة من الملل والروتين والإحباط.. يرسف في قيودها الطالب والمعلم معا..
ونتيجة هذين الأمرين -الداخلي والخارجي- واحدة تقريبا، تعليم رمادي مهلهل ومشوه، ووجود أحد الأمرين كاف جدا عن الآخر، ويصعب اجتماعهما لأن المعلم السلبي أو المعلم الموظف لا يضايقه الأمر الأول ولا يعنيه، فليس لديه ما يفعله، وليس لديه ما يخسره، بل ربما برع في تطبيق قوانين الحقل بحذافيرها، خصوصا إذا كان صاحب الحقل يرضى بفئة النقود ذات اللون الرمادي، ولا يهمه بعد ذلك أن تستحيل حقول النعناع التي كانت تموج بالجمال وألوان الحياة إلى مساحات ذابلة باهتة صفراء!