لا غرابة في أن قادة إسرائيل، سواء كانوا حاصلين على رتبة «بروفيسور» أو «جنرال»، فإنهم يفكرون بالطريقة ذاتها التي تبتعد كثيرا عن جوهر المعضلة، وتتعلق بغبارها
تتكون المؤسسة الأكاديمية في إسرائيل من مجلس التعليم العالي والتنظيمات الطلابية المختلفة، ومن عدد من الجامعات والمعاهد ومؤسسات التفكير. ومن أبرز الجامعات: الجامعة العبرية التي وضع حجر أساسها حاييم وايزمن في عام 1918، ودشنها اللورد بلفور عام 1925. وتعد الجامعة من أهم الجامعات الإسرائيلية في مجالي التدريس والبحث، حيث تجري العملية التدريسية في ثماني كليات، وجامعة تل أبيب التي تأسست عام 1956، وجامعة حيفا التي تأسست عام 1963 وتضم أكثر من 20 كلية وقسما، وجامعة بار إيلان التي تأسست عام 1953 ودشنت في عام 1955، حاملة اسم الحاخام والزعيم الصهيوني مايربار إيلان، وجامعة بن غوريون التي تأسست عام 1969 كمعهد للتعليم العالي، ومن أهم أقسامها قسم لدراسة الآثار والأبحاث التاريخية، يُعنى بتطبيق المنهج التوراتي.
وقد تفاخر الإسرائيليون بمؤسستهم الأكاديمية ومكانتها على غرار باقي مؤسساتهم، وتغنوا بدرجة التقدم العلمي وحرية الرأي والتعبير السائدة في إسرائيل، رغم صحوة الرأي العام العالمي واكتشافه أن إسرائيل دولة فصل عنصري بامتياز.
فقد تصاعدت خلال العقد الأخير من الزمن حملات إعلامية وأكاديمية عالمية تدعو إلى مقاطعة الجامعات الإسرائيلية، أثمرت نجاحات واضحة في فرنسا وبلجيكا وهولندا والمملكة المتحدة والنرويج والسويد وإسبانيا وبلدان أخرى. وذلك نتيجة لتفشي ظاهرة عسكرة الأكاديميا الإسرائيلية وخضوعها لإملاءات سياسية حكومية هدفها تجميل صورة الاحتلال والاستيطان.
ولمواجهة حملة المقاطعة الأكاديمية العالمية تم الترويج لادعاء مركزي يفيد بأن الجامعات في إسرائيل هي «جسم مستقل، متنور وتقدمي». وهو ادعاء دحضه تصاعد هجرة العقول الإسرائيلية من جهة، ومن جهة أخرى لجوء مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين تأسست مؤخرا تحت اسم «أكاديميا من أجل المساواة»، إلى إعداد وإنشاء «بنك معلومات» أُطلق عليه اسم «أكاديميا مجنَّدَة».
والمهمة الرئيسة لمشروع «بنك المعلومات» هي الرغبة في الكشف عن الممارسات العديدة المختلفة التي تلجأ إليها الجامعات الإسرائيلية في قمع الآراء والمواقف المعارضة، في التمييز المنهجي والممأسس ضد الطلاب والمحاضرين الفلسطينيين من مواطني إسرائيل، إلى جانب الدور العميق الذي تؤديه في خدمة الاستيطان والاحتلال. والدور العميق الذي تلعبه الجامعات الإسرائيلية في تكريس الاحتلال الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، من خلال تعاونها الوثيق مع المستوطنات والمشروع الاستيطاني، مع الجيش والصناعات الحربية ومع الجهد الإعلامي الإسرائيلي ضد حركة المقاطعة الدولية.
وتقول نتالي روتمان، أستاذة التاريخ في جامعة تورنتو، وإحدى المبادرات إلى تأسيس مجموعة «أكاديميا من أجل المساواة»: «إن بنك المعلومات سيزود الأكاديميين في إسرائيل وفي العالم بالأدوات اللازمة والملائمة لفهم كيفية تعاون الجامعات الإسرائيلية، تعاونا تاما، مع الاحتلال، على عكس الصورة المرتسمة لها دوليا، وكأنها تشكل جبهة معارضة ومقاومة للسلطة اليمينية».
ولا يقتصر الهدف من وراء إنشاء «بنك المعلومات»، على تفنيد ودحض المفاهيم المغلوطة عن الأكاديميا الإسرائيلية فقط، بل يتعداه إلى وضع علاقاتها مع الحكومة والاحتلال في دائرة الضوء وكشف طابعها الحقيقي.
ولقد بدأت مجموعة «أكاديميا من أجل المساواة» عملها على إنشاء «بنك المعلومات» في مطلع عام 2017، وكانت نقطة انطلاقها من مجموعة مقالات جمعها الباحث الاقتصادي الإسرائيلي شاي حيفر، تكشف وتوضح مجالات التعاون الاقتصادي ما بين الجامعات، من جهة، والمستوطنات والجيش والصناعات الحربية من جهة أخرى. ثم انتقلت المجموعة، لاحقا، إلى جمع مقالات ووثائق حول قمع الأكاديميين الفلسطينيين في إسرائيل وفي الضفة الغربية.
وتتوزع المواد في «بنك المعلومات» -وجميعها مواد علنية منشورة- على أربعة أبواب: الأكاديميا العالمية، التمويل الدولي، الأكاديميا الإسرائيلية والأكاديميا الفلسطينية.
ويرصد «بنك المعلومات» حالات انتهاك الحريات الأكاديمية في الجامعات الإسرائيلية، مثل محاولات رئيسة «جامعة بن غوريون» في بئر السبع، ريفكا كرمي، فرض قيود ورقابة مشددة على النشاط السياسي في الحرم الجامعي. ورصد الوجهات المركزية في الأكاديميا الإسرائيلية في الوقت الراهن، مثل العدد المتزايد من البرامج الرامية إلى «مقاومة محاولات نزع الشرعية عن دولة إسرائيل في العالم، العنصرية الممأسسة ضد الطلاب الفلسطينيين في الجامعات والكليات الإسرائيلية، بدءا من شروط القبول، مرورا بمنع استخدام اللغة العربية، وانتهاء بالرقابة المفروضة عليهم وتضييق حريتهم في التنظيم والنشاط السياسي، ازدهار البرامج والمساقات الخاصة التي توفرها الجامعات الإسرائيلية المختلفة لجنود الجيش الإسرائيلي ورجال الأجهزة الأمنية الأخرى، من خلال خفض جدي للمعايير والمتطلبات الأكاديمية، في كثير من الأحيان، والتعاون الزاحف ما بين مؤسسات التعليم العالي في داخل «الخط الأخضر» والكليات في الضفة الغربية والجولان المحتلين، والتعاون بين الجامعات الإسرائيلية ومؤسسات رسمية في مشاريع عسكرتارية، مثل المشاركة في تسويق المصنوعات العسكرية الإسرائيلية.
ويشمل باب «الأكاديميا الفلسطينية» في «بنك المعلومات» توثيقا واسعا جدا للاقتحامات العسكرية الإسرائيلية للجامعات ومؤسسات التعليم الفلسطينية في الضفة الغربية، بما يتخللها من اعتقالات للطلاب وأعضاء السلك التعليمي، إلى جانب القيود المشددة على حرية الحركة والتنقل المفروضة على الطلاب في قطاع غزة، مع التأكيد -من خلال مقالات، وثائق وتقارير عديدة- على صمت رؤساء وكبار الأكاديميا الإسرائيلية المطبق حيال القمع الذي يعاني منه زملاؤهم الفلسطينيون.
وسيشكل «بنك المعلومات» ما يمكن وصفه بـ«مكتبة للأكاديميين في الخارج» يستطيع كل منهم التعرف من خلالها على العلاقة بين المؤسسة الأكاديمية التي يعمل أو يدرس فيها وبين مؤسسات التعليم العالي في إسرائيل. وستكون جميع المواد في «بنك المعلومات» متوفرة باللغتين العبرية والعربية.
وقد يشكل «بنك المعلومات» ثروة ينبغي استثمارها في سياق تشديد مقاطعة إسرائيل على كافة المستويات، وتفكيك رزمة الأكاذيب والأساطير المؤسسة لكيان تم اختلاقه واختراع مواطنيه قبل 70 عاما.
ولذلك لا غرابة في أن قادة إسرائيل، سواء كانوا حاصلين على رتبة «بروفيسور» أو «جنرال»، فإنهم يفكرون بالطريقة ذاتها التي تبتعد كثيرا عن جوهر المعضلة، وتتعلق بغبارها، فهم يغمضون العين والعقل عن فظائع الاحتلال، والجرائم ضد الشعب الفلسطيني.