كأنني أرى نفسي وأبنائي رأي العين في مستقبل السعودية الجديدة، نرفل بأثواب الرفاه والتطور والأمن والأمان، يد فيها مصحف وأخرى تحمل خيرا تعطي وتبني لغد أكثر بهاء
رائحة الوطن البعيد، وطعم البعد حينما يمتزجان في النفس، تصيبك بذهول يلتصق بك كغشاوة تحجب الرؤية وتقلب الأمور، مما يجعل ذائقتك مرغمة على رؤية الحسن والقبيح في غير صورتهما، وهكذا هي الغربة! ولا عتب، والعيش في مجتمع غريب عنك من جهة الثقافة الخاصة المعاشية والسلوكية، يعتبر معضلة شعورية يشكو المرء منها كلما زادت حساسية النفس وارتفعت لديه درجة التثقف والتحضر، ولا فرق في ذلك يذكر حتى مع تشابه وتوافق الخطوط العريضة كالدين واللغة والانتماء المناطقي والإقليمي بمفهومه الأوسع، بين الوطن الأم وموطن الغربة.
تجول في ذهني هذه الخواطر أثناء ما يدور بيني وبين بعض الأصدقاء -من غير السعوديين- من حديث يطول ولا ينتهي، حول المجتمع السعودي، واختلاف ثقافته ونمط تعاطيه مع الحداثة والمستجدات، بينه وبين المجتمعات الخليجية الأخرى، أو حتى على مستوى المدن داخل المملكة، ما بين أبها وبريدة وجدة والرياض والدمام وغيرها من مدن مملكتنا الحبيبة، وعلى الرغم من اتفاقي مع بعض أطروحات هؤلاء الأصدقاء، إلا أنني أجدني في موقف المتفرج قليل الحيلة أمام بعض المفاهيم والتصورات المغلوطة عن المجتمع والناس في السعودية، والتي رسخها الشكل الظاهر الذي يشي بسوء هذا الفعل أو ذاك، والتي تؤدي رؤيته ومشاهدته -أي ذلك الفعل السيئ- منفصلا عن سياقه، وتكوينه الثقافي ينحاز إلى زاوية التجني، وأعذر من يأخذ بظواهر الأمور دون الغوص في دقائقها، إذ إنها مشاهدات عابرة أو وقتية، إنما العتب على عناصر المجتمع الذي واكب نشوء تلك المفاهيم وعرفوا أسرارها وتفاصيلها، ولا تجد منهم حراكا لتعديل الصورة أو النظرة، أو تغيير المفهوم نفسه وتعديله إلى الوضع الصواب.
فمجتمعنا يعيش ضمن منظومة من النظم والقوانين الاجتماعية الصارمة، خصوصا في بعض مدنه وقراه، وتحديدا مناطق الوسط، ويعزز ذلك النظرية الشهيرة في فلسفة العمران التي فجرها ابن خلدون في مقدمته حول انفتاح الأطراف وانغلاق الوسط في البلدان والدول، وتكمن المفارقة أو المعضلة والعقدة الجذرية في معاناة الطارئ على هذه المجتمعات من الأفراد والأسر، وحتى أوعية الأعمال ورؤوس الأموال الوافدة، في تلك الحزمة الهائلة من الأعراف والتقاليد المجتمعية التي ألبست لبوس الدين وقدسية التعاليم الشرعية حتى أضحت دينا نوالي فيه ونعادي، وهذه التعاليم والأعراف منطلقة -كنية طيبة اتفقنا أو اختلفنا معها- من أساس أخلاقي وقيمي يهدف في المقام الأول إلى المحافظة على النسق الأخلاقي المرتبط بالدين، والمنتج النهائي منه هو الالتزام بالرأي الديني السائد، باعتبار أن المجتمع السعودي مجتمع سلفي لم يتلوث بأفكار وافدة قد تحدث خروقات هائلة في رقعة التدين ومساحته أو هكذا يظن، وكذلك لا أنسى الخصوصية السعودية، تلك اللازمة التي حمَّلناها وحملتنا ما لا نحتمل أو تحتمل كعبارة لا معنى لها، إذ إن المجتمع السعودي والفرد السعودي إنسان كأي إنسان وكأي مجتمع.
وعلى مدى عشرات السنين، أطبقت هذه الأعراف والتقاليد التي صاغتها ظروف وأطراف عدة على حياة المجتمع السعودي، وأصبحت جزءا من عاداته وتقاليده وقيمه وثقافته التلقائية، والتي يعاد إنتاجها من خلال نظام تعليمي وثقافي وإعلامي صارم، إلا أنه وعلى مدى أكثر من ثمانية عقود من تطبيق منظومة الفضيلة هذه في المجتمع السعودي فإن النتائج والمخرجات على الأرض تبدو متناقضة مع أهدافها الموضوعة، في بلد يوصف بأنه القلعة الحصينة للإسلام السلفي، فواقع التنمية الحضارية، والمعطيات الاجتماعية المتعلقة بأسلمة المجتمع أو «سلفنته» -إن صحت التسمية- تقل بكثير عن الشعارات المرفوعة وما تصوره أجهزة الإعلام والأهداف والغايات الكبرى التي أنشئت من أجلها هذه النظم، والتي تهدف إلى نهضة المجتمع وتطوره مع الالتزام التام بالتعاليم الدينية والقوانين الشرعية، إلا أن كلا الهدفين لم يتحقق على أرض الواقع، فلم يصبح المجتمع مجتمعا دينيا ملتزما بتعاليمه وقوانينه إلا في إطار نسبي، ولم يحقق أي تنمية فعلية يعتد بها إذا ما قورن بالمجتمعات المجاورة له، وكل ذلك بسبب عدم عدم تجاوب المجتمع مع التنمية بما يتلاءم مع المتطلبات الحقيقية والواقعية لاستثمار الثروات الطبيعية والبشرية، والتي تتناقض مع بعض النظم والأعراف الضاغطة على المجتمع السعودي، وفي مقدمتها منظومة العفة والفضيلة والأخلاق والقيم الدينية -كما حددتها الثقافة المجتمعية في البلد- والتي تمت صياغتها وفقا لرأي واحد واتجاه أوحد.
وأستثني من هذا فترة التأسيس والتي تعتبر أكبر ثورة ثقافية مرت بها البلاد على الإطلاق، حيث إن الملك المؤسس نقل الثقافة السياسية والمجتمعية من عقلية القبيلة والعرف القبلي إلى النظام المؤسسي المحكم القائم على الدولة الحديثة، وتكاملت تلك المنظومة في صورة واضحة لا تخطئها العين في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز، الملك الثاني في العهد السعودي الثالث، وبنظرة بسيطة في مجلدات القرارات والأنظمة التي قننت العمل في الدوائر والمؤسسات الحكومية، أو بالرجوع إلى كتاب (تاريخ الملك سعود الوثيقة والحقيقة) للباحث الدكتور سلمان بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود، نعرف أن جل التنظيمات الإدارية التي تدار بها الدوائر الحكومية اليوم أقرت من عهد المؤسس -رحمه الله-، حيث صدرت مجموعة إصلاحات عرفت باسم (إصلاحات ولي العهد)، وذلك عام 1372، وقد شملت تلك الإصلاحات معظم نشاطات الحكومة المالية، والقضائية، والدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والنفطية، وتناولت تلك الإصلاحات إعادة تنظيم الإدارات القائمة، وإنشاء إدارات جديدة ومجالس تنظيمية، وتأسيس شركات تعاونية، وتوسيع مجلس الشورى ووضع نظامه.
ومن هنا يتضح أن المؤسس -رحمه الله- تمكن من المزاوجة الحرجة والمستحيلة بين الحداثة والأصالة، الأصالة المتمثلة في تطبيق سماحة الإسلام، خصوصا بعد تجاوز معضلة «إخوان من طاع الله»، أما الحداثة فهي التعاطي مع المنتجات السياسية والقوالب الحضارية الحديثة في ذلك الوقت، والسير في قنواتها مع الحفاظ على الديانة. وكانت هنا المعضلة التي استطاع الملك عبدالعزيز الخروج من مأزقها بكل سلاسة حتى عدّه بعض الدارسين لتاريخ الجزيرة العربية من أبرز القادة في التاريخ، أضف إلى ذلك ما واجهه من مأزق خلق توليفة اجتماعية بين نسيج اجتماعي مختلف تماما عن بعضه البعض، فمن الحجازي إلى النجدي إلى العسيري إلى البدوي الذي يحل ويرتحل... إلخ، توليفة اجتماعية كان لا بد لها أن تذوب مع بعضها البعض، لتكون خليطا متجانسا اسمه السعودي، وأعقب ذلك مباشرة عملية لا تقل جسامة وهي إدخال البلاد مسار التقدم والتحديث كما أسلفت.
وخير خلف لخير سلف، فما فعله المؤسس العظيم في زمانه، يعيد صنعه في هذا الزمان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان -أيده الله- لنقل المملكة العربية السعودية إلى المستقبل الذي يستحقه الإنسان السعودي، وكأنني أرى نفسي وأبنائي رأي العين في مستقبل السعودية الجديدة، نرفل بأثواب الرفاه والتطور والأمن والأمان، يد فيها مصحف وأخرى تحمل خيرا تعطي وتبني لغد أكثر بهاء.